شبه الله سبحانه نفقة المنفق في سبيله – سوء كان المراد به الجهاد أو جميع سبل الخير ، من كل – بمن بذر بذرا فأنبتت كل حبة منه سبع سنابل اشتملت كل سنبلة على مائة حبة . والله يضاعف لمن يشاء فوق ذلك ، بحسب حال المنفق وأيمانه وإخلاصه وإحسانه ، ونفع نفقته وقدرها . ووقوعها موقعها .
فإن ثوات الإنفاق يتفاوت بحسب ما يقوم بالقلب من اليمان والإخلاص ، والتثبيت عند النفقة ، وإخراج المال بقلت ثابت ، قد انشرح صدره بإخراجه ، وسمحت به نفسه ، وخرج من قلبه قبل خروجه من يده ، فهو ثابت القلب عند إخراجه ، غير ولا هلع ، ولا مُتْبِعُهُ نفسه ، ترجف يده وفؤاده .
ويتفاوت بحسب نفع الإنفاق بحسب مصادفته لموقعه ، وبحسب طيب المنفق وزكائه .
وتحت هذا المثل من الفقه:أنه سبحانه شبه الإنفاق بالبذر ، فالمنفق ماله الطيب لله ، لا لغيره ، باذر ماله في أرض زكية ، فملغلُّه بحسب بذره ، وطيب أرضه وتعاهد البذر بالسقى ، ونفى الدغل ، والنبات الغريب عنه ، فإذا اجتمعت هده الأمور ولم يحرق الزرع نار ، ولا لحقته جائحة جاء أمثال الجبال ، وكان مثله كمثل جنة بربوة . وهي المكان المرتفع الذي تكون الجنة فيه نصب الشمس والرياح فتربى الأشجار هناك أتم تربية . فنزل عليها من السماء مطر عظيم القطر ، متتابع ، فرواها ونماها . فأتت أكلها ضعفى ما يؤتيه غيرها ، لسبب ذلك الوابل فإن لم يصبها وابل فطل ، أي مطر صغير القطر يكفيها ، لكرم منبتها ، تزكو على الطل ، وتنمو عليه ، مع أن في ذكر نوعي الوابل والطل إشارة إلى نوعي الإنفاق الكثير والقليل ، فمن الناس من يكون إنفاقه وابلا ، ومنهم من يكون إنفاقه طلا ، والله لا يضيع مثقال ذرة .
فإن عرض لهذا العامل ما يحرق أعماله ، ويبطل حسناته ، كان بمنزلة رجل له{ جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت} [ التقرة:266] فإذا كان يوم استيفاء الأعمال وإحراز الأجور ، وجد هذا العامل عمله قد أصابه ما أصال صاحب هذه الجنة . فحسرته حينئذ أضد من حسرة هذا على جنته .
فهذا مثل ضربه الله سبحانه للحسرة بسلب النعمة عند شدة الحاجة إليها ، مع عظم قدرها ومنفعتها . والذي ذهب عنه قد أصابه الكبر والضعف ، فهو أحوج ما كان إلى نعمته . ومع هذا فله ذرية ضعفاء ، لا يقدرون على نفقته . والقيام بمصالحه بل هم في عياله ، فحاجته إلى جنته أضد ما كانت لضعفه وضعف ذريته . فكيف يكون حال هذا إذا كان له بستان عظيم فيه من جميع الفواكه والثمر ، وسلطان ثمره أجل الفواكه وأنفعها ، وهو ثمر النخيل والأعناب ، فمغله يقوم بكفايته وكفاية ذريته ، فأصبح يوما وقد وجده محترقاً كله كالصريم . فأي حسرة أعظم من حسرته ؟
قال ابن عباس رضي الله عنه:هذا مثل الذي يختم له بالفساد في آخر عمره . وقال مجاهد:هذا مثل المفرط في طاعة الله حتى يموت . وقال السدي:هذا مثل المرائي في نفقته الذي ينفق لغير الله ، ينقطع عنه أحوج ما يكون إليه .
وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال:قولوا:نعلم أو لا نعلو . فقال ابن عباس:في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين . قال:قل يا ابن أخي ، ولا تحقر نفسك . قال:ضرب مثلا لعمل . قال:لأي عمل ؟ قال:لرجل غني يعمل بالحسنات ، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله كلها .
قال الحسن:هذا مثل ، قل والله من يعقله من الناس:شيخ كبير ضعف جسمه ، زكثر صبيانه ، فقد جنته أحوج ما كان إليها ، وإن أحدكم والله لأفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا .
فصل
فإن عرض لهذه الأعمال من الصدقات ما يبطلها من المن والأذى والرياء . فالرياء يمنع انعقادها سببا للثواب ، والمن والأذى:يبطل الثواب التي سببا له فمثل صاحبها ، وبطلان عمله{ كمثل صفوان} وهو الحجر الأملس عليه تراب{ فأصابه وابل} وهو المطر الشديد{ فتركه صلدا} لا شيء عليه .
وتأمل أجزاء هذا المثل البليغ وانطباقها على أجزاء المثل به ، تعرف عمة القرآن وجلالته .
فإن الحجر في مقابلة قلب هذا المرائي المان والمؤذي . فقلبه في قسوة عن الإيمان والإخلاص والإحسان بمنزلة الحجر .
والعمل الذي عمله لغير الله بمنزلة التراب الذي على ذلك الحجر . فقسوة ما تحته وصلابته تمنعه من النبات والثبات عند نزول الوابل . فليس له مادة متصلة بالذي يقبل الماء وينبت الكلأ .
وكذلك المرائي ليس له ثبات عند وابل الأمر والنهي ، والقضاء والقدر . فإذا نزل عليه وابل الوحي تكشف عنه ذلك التراب اليسير الذي كان عليه:فبرز ما تحته حجرا صلدا لا نبات فيه . وهذا مثل ضربه الله سبحانه لعمل المرائي ونفقته ، لا يقدر يوم القيامة على ثواب شيء منه ، أحوج ما كان إليه وبالله التوفيق .
وهذه الآية كالتفسير والبيان لمقدار الأضعاف التي يضاعفها للمقرض ، ومثل سبحانه بهذا المثل إحضارا لصورة التضعيف في الأذهان بهذه الحبة التي غيبت في الأرض فأنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة حتى كأن القلب ينظر إلى هذا التضعيف ببصيرته كما تنظر العين إلى هذه السنابل التي من الحبة الواحدة فينضاف الشاهد العياني إلى الشاهد الإيماني القرآني فيقوى إيمان المنفق وتسخو نفسه بالإنفاق .
وتأمل كيف جمع السنبلة في هذه الآية على «سنابل » ، وهي من جموع الكثرة إذ المقام مقام تكثير وتضعيف وجمعها على «سنبلات » في قوله تعالى:{ وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات} [ يوسف:43] . فجاء بها على جمع القلة لأن السبعة قليلة ولا مقتضى للتكثير .
وقوله تعالى:{ والله يضاعف لمن يشاء} .
قيل المعنى:والله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاءا ، لا لكل منفق ، بل يختص برحمته من يشاء وذلك لتفاوت أحوال الإنفاق في نفسه ولصفات المنفق وأحواله ، في شدة الحاجة وعظيم النفع وحسن الموقع .
وقيل:{ والله يضاعف لمن يشاء} فوق ذلك فلا يقتصر به على السبعمائة بل يجاوز في المضاعفة هذا المقدار إلى أضعاف كثيرة .
واختلف في تفسير الآية .
فقيل:مثل نفقة الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة .
وقيل:مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل باذر حبة ، ليطابق الممثل للممثل به .
فهاهنا أربعة أمور:( منفق ، ونفقة ، وباذر ، وبذر ) ، فذكر سبحانه من كل شق أهم قسميه فذكر من شق الممثل «المنفق » ، إذ المقصود ذكر حاله وشأنه وسكت عن ذكر النفقة لدلالة اللفظ عليها ، وذكر من شق الممثل به «البذر » إذ هو المحل الذي حصلت فيه المضاعفة ، وترك ذكر الباذر لأن القرض لا يتعلق بذكره ، فتأمل هذه البلاغة والفصاحة والإيجاز المتضمن لغاية البيان .
وهذا كثير في أمثال القرآن ، بل عامتها ترد على هذا النمط .
ثم ختم الآية باسمين من أسمائه الحسنى مطابقين لسياقها وهما «الواسع » و«العليم » فلا يستبعد العبد هذه المضاعفة ولا يضيق عنها عطنه فإن المضاعف ( سبحانه ) واسع العطاء ، واسع الغنى ، واسع الفضل ، ومع ذلك فلا يظن أن سعة عطائه تقتضي حصولها لكل منفق فإنه عليم بمن تصلح له هذه المضاعفة وهو أهل لها ، ومن لا يستحقها ولا هو أهل لها ، فإن كرمه وفضله تعالى لا يناقض حكمته بل يضع فضله مواضعه لسعته ورحمته ويمنعه من ليس من أهله بحكمته وعلمه .