{مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّاْئَةُ حَبَّةٍ} إن الآية تتحدث عن الجزاء على الإنفاق في سبيل الله ،بأسلوب ضرب المثل بالصورة الحسيّة التي يواجهها الإنسان في حياته ،وهي صورة الحبّةالبذرة التي يلقيها الزارع في الأرض ،فتنبت سبع سنابل تشتمل كل واحدة منها على مائة حبة .وهكذا يتحوّل كلّ مورد للإنفاق من الإنسان إلى سبعمائة حسنة له قابلة للزيادة عند الله ...والحديث عن الثواب في مجال الترغيب في العمل أسلوب ديني ينطلق من فطرة الإنسان على محبّة الذات في ما تحصل عليه من الربح والخسارة ،وقد أبقاها الله فلم يكبتها في داخله عندما كلفه بما كلفه مما قد يؤدي إلى الخسارة المادية ،ولكنه وجهها توجيهاً صالحاً يدفع الإنسان إلى طلب الربح في ما عند الله بدلاً من الاقتصار على ما في الحياة الدنيا ،وذلك من خلال حركة الإيمان بالله واليوم الآخر ،فيبتعد بذلك عن وساوس الشيطان التي تثير أمامه احتمالات الخسارة عندما يريد ممارسة الإنفاق .
وقد يتساءل بعض الناس ،أنه لا يوجد في العالم سنبلةٌ تحمل مائة حبةٍ ،فإن أكثر الأرقام التي شوهدت هو ثمانون حبّة .فكيف نفهم وقوع هذا الفرض غير الموجود في الآية الكريمة ؟والجواب: أولاً ؛إن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ،فلا مانع من وجود مثل هذه السنبلة في ما لم نعثر عليه .وثانياً ؛إن أسلوب ضرب المثل لا يفرض واقعية الصورة ،بل كل ما هناك هو تقريب الفكرة من خلال الصورة التي تنقل الموضوع من الواقع إلى المثال ،فإن المقصود هنا هو الحديث عن حجم ثواب الله على الإنفاق في سبيله بالمستوى الذي يبلغ فيه هذا الرقم ،ولكن بأسلوب مؤثر في صورة الواقع المحسوس
علاقة الثواب بحجم العمل
وقد يتساءل الإنسان عن طبيعة هذا الجزاء أو تفسيره ،هل هو مجرد تفضّل من الله على عبده ،أو أنّ هناك سرّاً يقترب فيه حجم الثواب من حجم العطاء ؟
وقد يبدو لنافي الجواب عن هذا التساؤلأنه تفضُّل من الله ينطلق من سر في نتائج العطاء ،فإن قيمة العطاء تتمثل في الحل الذي يقدمه لمشاكل الفرد والمجتمع والأمة ،ما يعني أن استمرار هذه المشاكل يخلق للحياة مشاكل جديدة ومآسي كثيرة ،لأن المشكلة إذا امتدت في الزمن ،أحدثت أوضاعاً سلبيّة على حياة الإنسان الذي يعيشها ،ما يوجب خللاً كبيراً في توازن الحياة ،وبذلك يعمل الحل على تفادي أكثر من مشكلة ،كما أنه يؤثر في الجانب الإيجابي ويعطي دفعةً جديدةً للحركة المبدعة في حياة الإنسان ونموّه وتطوّره ،ما يعني أن العطاء المادي يفسح المجال للعطاء الروحي من جانب الإنسان المحروم بطريقةٍ منتجةٍ واسعةٍ ...وهذا ما نستوحيه من الأحاديث التي تتنوّع فيها كميّة الثواب تبعاً لنوعية الحرمان وتأثيره على طاقة الإنسان وحياته العامة والخاصة ...
وهناك نقطة أخرى ،قد تضاعف الثواب على العمل من حيث دلالتها على عمق المعنى الروحي الذي يتمثل في إخلاص المؤمن لربه ،فإن للنية قيمتها الأساسية في طبيعة العمل وفي نوعية المعنى المتمثل فيه ،بل هي روح العمل ،وهذا ما وردت به الأحاديث الكثيرة القائلة: «فإنما الأعمال بالنيّات ،إنما لكل امرىء ما نوى » و«يحشر الناس على نياتهم يوم القيامة » وغيرها الكثير .وفي ضوء هذا ،قد تلتقي النية الطيبة المخلصة المنفتحة على إنسانية الإنسان من خلال انفتاحها على الله في ما يحبه ويرضاه ،بالحلّ الأمثل للمشكلة الاجتماعية الخانقة في حياة الفرد والمجتمع ،ما يعزز الجانب الذاتي الروحي بالجانب الموضوعي الاجتماعي ،ولعل كلمة{سَبِيلِ اللَّهِ} تختصر الأمرين معاً ،فإن العمل الذي ينطلق من الإنسان في سبيل الله ،هو العمل الذي يريد الله للحياة أن تحققه في واقع الناس من خلال الإنفاق ونحوه ،وهذا ما يجعل مضاعفة الثواب مرتبطةً بمشيئة الله التي تراقب الإنسان في دوافعه وتنظر إلى العمل في نتائجه المؤدية إلى حل المشكلة الفردية والاجتماعية من خلال الخصوصيات التي تتنوع هنا وهناك في الحجم والعمق والإخلاص .
ومن خلال ذلك ،نعرف أن حجم الثواب كان منطلقاً من حجم النتائج الإيجابية التي يحققها العطاء والنتائج السلبية التي يمنعها ،بعيداً عن طبيعة الرقم الذي يتمثل فيه العطاء في ذاته .وفي ضوء ذلك ،نعرف معنى الفقرة التالية في الآية{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} على أساس ما ينتجه العطاء من نتائج وما يكشف عنه الموقف العملي في دوافعه وأهدافه من معان قريبة إلى الله حبيبة إليه{وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} لا يضيق بأي عطاء ،وهو العالم بنواياكم وأفكاركم في ما تعطون وتمنعون .