/م261
قال:{ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله} وهي ما يوصل إلى مرضاته من المصالح العامة لاسيما ما كان نفعه أعم وأثره أبقى:{ كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة} أي كمثل أبرك بذر في أخصب أرض نما أحسن نمو فجاءت غلته مضاعفة سبع مئة ضعف وذلك منتهى الخصب والنماء .أي أن هذا المنفق يلقى جزاءه في الدنيا مضاعفا أضعافا كثيرة .كما قال في آية سابقة ، فالتمثيل للتكثير لا للحصر ولذلك قال:{ والله يضاعف لمن يشاء} فيزيده على ذلك زيادة لا تقدر ولا تحصر .فذلك العدد لا مفهوم له وقيل يضاعف تلك المضاعفة التي ضرب لها المثل .
{ والله واسع عليم} لا ينحصر فضله ولا يجد عطاؤه:{ عليم} بمن يستحق المضاعفة من المخلصين الذين يهديهم إخلاصهم إلى وضع النفقات في مواضعها التي يكثر نفعا وتبقى فائدتها زمنا طويلا ، كالمنفقين في إعلاء شأن الحق وتربية الأمم على آداب الدين وفضائله التي تسوقهم إلى سعادة المعاش والمعاد ، حتى إذا ما ظهرت آثار نفقاتهم النافعة في قوة ملتهم وسعة انتشار دينهم وسعادة أفراد أمتهم عاد عليهم من بركات ذلك وفوائده ما هو فوق ما أنفقوا بدرجات لا يمكن حصرها .وقد قال الأستاذ الإمام رحمه الله في الدرس:إن المراد بالإنفاق هنا الإنفاق في خدمة الدين .وقال في وقت آخر:إن كلمة في سبيل الله تشتمل جميع المصالح العامة وهو ما جرينا عليه آنفا .
أقول:ومن أراد كمال البيان في ذلك فليعتبر بما يراه في الأمم العزيزة التي ينفق أفرادها ما ينفقون في إعلاء شأنها بنشر العلوم وتأليف الجمعيات الدينية الخيرية وغير ذلك من الأعمال التي تقوم بها المصالح العامة ، إذ يرى كل فرد من أفراد أدنى طبقاتها عزيزا بها محترما باحترامها مكفولا بعنايتها كأن أمته ودولته متمثلتان في شخصه .وليقابل بين هؤلاء الأفراد وبين كبراء الأمم التي ضعفت وذلت بإهمال الإنفاق في المصالح العامة وإعلاء شأن الملة كيف يراهم أحقر في الوجود من صعاليك غيرهم .ثم ليرجع إلى نفسه وليتأمل كيف أن نفقة كل فرد من الأفراد في المصالح العامة يصح أن تعتبر هي المسعدة للأمة كلها من حيث إن مجموع النفقات التي بها تقوم المصالح تتكون مما يبذله الأفراد فلولا الجزئيات لم توجد الكليات ، ومن حيث إن الناس يقتدي بعضهم ببعض بمقتضى الجبلة والفطرة فكل من بذل شيئا في سبيل الله كان إماما وقدوة لمن يبذل بعده وإن لم يقصدوا الإقتداء به لأن الناس يتأثر بعضهم بفعل بعض من حيث لا يشعرون .والفضل الأكبر في هذه الأمة لمن يبدأ بالإنفاق في عمل نافع لم يسبق إليه .أولئك واضعو سنن الخير والفائزون بأكبر المضاعفة لأن لهم أجورهم ومثل أجور من اقتدى بسنتهم .فقد أخرج مسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سن في الإسلام حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها "{[254]} الحديث .