فأخبر تعالى أن ما قدمت أيديهم قبل البعثة سبب لإصابتهم بالمصيبة . وأنه سبحانه لو أصابهم بما يستحقون من ذلك لاحتجوا عليه بأنه لم يرسل إليهم رسولا ولم ينزل عليهم كتابا . فقطع هذه الحجة بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإنزال الكتاب لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل . وهذا صريح في أن أعمالهم قبل البعثة كانت قبيحة ، بحيث استحقوا أن يصيبوا بها بالمصيبة . ولكنه سبحانه لا يعذب إلا بعد إرسال الرسل . وهذا هو فصل الخطاب .
وتحقيق القول في هذا الأصل العظيم:أن القبح ثابت للفعل في نفسه ، وأنه لا يعذب الله عليه إلا بعد إقامة الحجة بالرسالة . وهذه النكتة هي التي فاتت المعتزلة والكلابية كليهما ، فاستطالت كل طائفة منهما على الأخرى ، لعدم جمعهما بين هذين الأمرين .
فاستطالت الكلابية على المعتزلة بإثباتهم العذاب قبل إرسال الرسل ، وترتيبهم العقاب على مجرد القبح العقلي . وأحسنوا في رد ذلك عليهم .
واستطالت المعتزلة عليهم في إنكارهم الحسن والقبح العقليين جملة ، وجعلهم انتفاء العذاب قبل البعثة دليلا على انتفاء القبح ، واستواء الأفعال في أنفسها وأحسنوا في رد هذا عليهم .
فكل طائفة استطالت على الأخرى بسبب إنكارهم الصواب .
وأما من سلك هذا المسلك الذي سلكناه فلا سبيل لواحدة من الطائفتين إلى رد قوله ، ولا الظفر عليه أصلا . فإنه لوافق لكل طائفة على ما معها من الحق مقرر له ، مخالف في باطلها منكر له .