اختلف المفسرون:هل هو كلام مستأنف ، أو داخل في مضمون هذه الشهادة . فهو بعض المشهود به .
وهذا الاختلاف مبني على القراءتين في كسر «إن » وفتحها ، فالأكثرون على كسرها . على الاستئناف وفتحها الكسائي وحده . والوجه:هو الكسر . لأن الكلام الذي قبله قد تم .
فالجملة الثانية:مقررة مؤكدة لمضمون ما قبلها . وهذا أبلغ في التقرير ، وأدخل في المدح والثناء . ولهذا كان كسر «إن » من قوله:{ إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم} [ الطور:28] أحسن من الفتح . وكان الكسر في قول الملبي:«لبيك إن الحمد والنعمة لك » أحسن من الفتح .
وقد ذكر في توجيه قراءة الكسائي ثلاثة أوجه:
أحدها:أن تكون الشهادة واقعة على الجملتين ، فهي واقعة على ( إن الدين عند الله الإسلام ) وهو المشهود به . ويكون فتح ( إنه ) من قوله ( أنه لا إله إلا هو ) على إسقاط حرف الجر ، أي بأنه لا إله إلا هو . وهذا توجيه الفراء . وهو ضعيف جدا . فإن المعنى على خلافه ، وأن المشهود به هو نفس قوله ( أنه لا إله إلا هو ) فالمشهود به ( أن ) وما في حيزها . والعناية إلى هذا صرفت ، وبه حصلت .
ولكن لهذا القول - مع ضعفه - وجه وهو أن يكون المعنى:شهد الله بتوحيده أن الدين عند الله الإسلام والإسلام هو توحيده سبحانه .
فتضمنت الشهادة توحيده وتحقيق دينه أنه الإسلام لا غيره .
الوجه الثاني:أن تكون الشهادة واقعة على الجملتين معا ، كلاهما مشهود به على تقدير حذف الواو وإرادتها . والتقدير:وأن الدين عنده الإسلام فتكون جملة استغنى فيها عن حرف العطف بما تضمنت من ذكر المعطوف عليه ، كما وقع الاستغناء عنها في قوله:{ سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم} [ الكهف:22] فيحسن ذكر الواو وحذفها ، كما حذفت هاهنا . وذكرت في قوله:{ ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} [ الكهف:22] .
الوجه الثالث:وهو مذهب البصريين أن يجعل «إن » الثانية بدلا من الأولى والتقدير شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ، وقوله:«أنه لا إله إلا هو » توطئة للثانية وتمهيد .
ويكون هذا من البدل الذي الثاني فيه نفس الأول فإن الدين الذي هو نفس الإسلام عند الله ، هو شهادة أن لا إله إلا الله ، والقيام بحقها . ولك أن تجعله على هذا الوجه من باب بدل الاشتمال . لأن الإسلام يشتمل على التوحيد .
فإن قيل:فكان ينبغي على هذه القراءة أن يقول:إن الدين عند الله الإسلام . لأن المعنى:شهد الله أن الدين عنده الإسلام . فلم عدل إلى لفظ الظاهر ؟
قيل:هذا يرجح قراءة الجمهور ، وأنها أفصح وأحسن ، ولكن يجوز إقامة الظاهر مقام المضمر ، وقد ورد في القرآن ، وكلام العرب كثيرا .
قال الله تعالى:{ واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب} [ البقرة:196] وقال:{ واعلموا أن الله غفور حليم} [ البقرة:235] وقال تعالى:{ والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين} [ الأعراف:170] .
قال ابن عباس رضي الله عنهما:افتخر المشركون بآبائهم ، فقال كل فريق:لا دين إلا دين آبائنا وما كانوا عليه ، فأكذبهم الله تعالى فقال:{ إن الدين عند الله الإسلام} يعني الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو دين الأنبياء من أولهم إلى آخرهم ليس لله دين سواه{ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} [ آل عمران:85] .
وقد دل قوله:{ إن الدين عند الله الإسلام} على أنه دين أنبيائه ورسله وأتباعهم من أولهم إلى آخرهم ، وأنه لم يكن لله قط ولا يكون له دين سواه .
قال أول الرسل نوح:{ فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين} [ يونس:72] وقال إبراهيم وإسماعيل:{ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} [ البقرة:128] ،{ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [ البقرة:132] وقال يعقوب لبنيه عند الموت:{ ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك - إلى قوله - ونحن له مسلمون} [ البقرة:133] ، وقال موسى لقومه:{ إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين} [ يونس:84] وقال تعالى:
{ فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون} [ آل عمران:52] ، وقالت ملكة سبأ:{ رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} [ النمل:44] .
فالإسلام دين أهل السموات ودين أهل التوحيد من أهل الأرض ، لا يقبل الله من أحد دينا سواه . فأديان أهل الأرض ستة:واحد للرحمن وخمسة للشيطان . فدين الرحمن هو الإسلام والتي للشيطان اليهودية والنصرانية والمجوسية والصابئة ودين المشركين .
فهذا بعض ما تضمنته هذه الآيات العظيمة من أسرار التوحيد والمعارف ولا تستطل الكلام فيها فإنه أهم من الكلام على كلام صاحب
«المنازل » .