{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسلامُ} ويتمثل في الإسلام لله في كل شيء ،بحيث يفتح الإنسان قلبه لله ،ليواجه الأشياء من هذا المنطلق ،الذي يدعوه إلى أن يجعل حياته كلها لله في ما يأمره به أو ينهاه عنه أو يقوده إليه من أهداف كبيرة في الحياة ،وبذلك لا بد له من أن ينفتح على كل الرسالات ويصدِّق كل رسالة ،فلا يخضع لعصبية عمياء تحجب عنه إشراقة الحق فتؤدي به إلى العناد والاستكبار والبعد عن الطريق المستقيم ،فينكر الحقائق الواضحة التي لا سبيل إلى إنكارها ،ويتنكر للبيّنات التي لا مجال للشك فيها .وهذا هو الذي يشمل كل ما جاء به الرسل ،فإن كل رسالة تمثل الخط الذي يريد الله للناس أن يسيروا عليه في مرحلتها ،الأمر الذي يجعل الإسلام متمثلاً فيها ،لأن السير عليها هو مصداق للاستسلام والخضوع لإرادة الله سبحانه ،أمّا إذا انتهت المرحلة لتبدأ مرحلة جديدة من خلال رسالةٍ جديدةٍ ،فإن الإسلام يتمثل في السير على خط هذه المرحلة الجديدة ،ويكون البقاء في الخط الأول منافياً للإسلام في مدلوله الروحي والعملي .فالإسلام هو صفة كل الأديان ،ولكن في نطاق المرحلة التي يتسع لها كل دين في ما حدد الله له من مراحل زمنية محدودة .
أطروحة الإسلام في الاعتقاد
وقد جاء في نهج البلاغة عن الإمام علي( ع ) أنه قال: «لأنسُبَنَّ الإسلام نسبةً لم ينسبها أحد قبلي: الإسلام هو التسليم ،والتسليم هو اليقين ،واليقين هو التصديق ،والتصديق هو الإقرار ،والإقرار هو الأداء ،والأداء هو العمل » .
وهذه هي الأطروحة التي تؤكد أن مسألة الإسلام ليست مسألة خضوعٍ واستسلام تلقائيٍّ شكليٍّ يتحرك بطريقة آليةٍ لا روح لها ولا عمق ،بل هي انفعال النفس بالفكرة والخط ،بحيث تنحني كل حالةٍ ذاتية أمامها ،وذلك من خلال اليقين الذي يمثّل وضوح الرؤية للأشياء ووعي الفكر للعقيدة ،فهو يتحرك من موقع القناعة التي تخضع الذات لكل معطياتها ومتطلباتها ،ما يجعل المسألة مسألة استسلامٍ إراديّ واعٍ منفتحٍ يعرف ما يريد وما لا يريد ،لا مسألة استسلامٍ أعمى خاضعٍ للإرث التقليدي والانفعال العاطفي .وإذا كان اليقين هو حالة العلم الذي يكتشف مفردات الحقائق ،فلا بد من التصديق الذي يجعل العلم متجذراً في الذات من موقع الاعتقاد القلبي الذي يجعل العقيدة من خصوصيات الذات في الحس والشعور .
وإذا تحقق التصديق ،فإنه يجتذب الإقرار الذي يعني الانتماء للفكرة من موقع الإقرار بها والإعلان عنها ،لأن القناعة بالانتماء تؤدي إلى شجاعة الاعتراف بمقتضاه .وهكذا يتحول الإقرار الذي يمثل الالتزام الجدي الواضح الصريح إلى الالتزام بالمسؤولية وبالأداء الحركي الذي هو العمل في مظهره الحي ،وهو الطاعة بامتثال أوامر الله ونواهيه .ومن خلال ذلك ،نعرف أن الإسلام ليس كلمةً مجردةً ،وليس عملاً جامداً ،بل هو كلمةٌ تنطلق من عقيدة ،وعقيدة تنطلق من قناعة ،وموقف يتحرك في خط الالتزام بالمسؤولية وحركة العمل .إن مسألة الإسلام هي مسألة روحٍ في معنى الذات ،والتزامٍ في خط العمل ،وعلمٍ في آفاق الإيمان .
اختلف أهل الكتاب فضلّوا
{وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} فقد ابتعدوا عن روحية الإسلام واستسلموا للعوامل الذاتية التي تتحكم في تعاملهم مع خط العقيدة والعمل ،فانطلقوا بروحية البغي والعدوان يثيرون الخلافات التي تفرق الناس عن الحق ،من دون أن يكون لهم أساس من شبهة أو قاعدةٌ من علم ،بل القضية على العكس من ذلك ،فهم يعرفون الحق على أساس العلم الذي يملكونه في ما يعرفونه من كتاب الله الذي أنزله الله على موسى وعيسى( ع ) .وذلك هو أساس التفرق في ما يتفرق به أهل الأديان وأهل المذاهب في الدين الواحد ،فهم لا يسلمون فكرهم وعقلهم لله عندما يتناقشون ،ليجدوا الانفتاح الذي لا مجال معه للانغلاق على روح العصبية العمياء ،ولو أسلموا أنفسهم لله ،لانطلقوا إلى الحقيقة في روح التعاون على فهمها وإزالة الغموض عنها ،بحيث يتسابقون إلى اللقاء عليها بدلاً من التسابق إلى الوقوف عند الحدود التي كانوا فيها من دون أية رغبة في التقدم إلى موقف الآخر أو إلى منتصف الطريق حيث تنتظرهم الحقيقة هناك .وبذلك ،فإن المشكلة في الخلافات الدينيةفي أغلب الحالاتروحية ونفسيّة أكثر منها فكرية وعلميّة .ونحن نعرف أن الوصول إلى القناعات المشتركة يفرض إزالة الحواجز التي تمنع من اللقاء ،وتدفع إلى التعصب والعناد ،ولن يكون ذلك إلا إذا فتح الإنسان قلبه لله ،في روحية المؤمنين الذين يقولون:{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [ آل عمران: 8] .
{وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ} لأن الكفر لا ينطلق من قاعدةٍ فكريةٍ يعذر فيها الإنسان ،بل ينطلق من الجهل والبغي والعناد الذي يدفعه إلى إنكار آيات الله في وحيه الذي أنزله على رسله ،وشرائعه التي ألقاها إلى أنبيائه وألهمهم تفاصيلها ،وربما كان من هذه الآيات ما ورد في الكتب السماوية السابقة من أوصاف النبي محمد( ص ) وعلاماته الدالة على نبوّته ،مما بقي في تراث اليهود والنصارى ،فقد أنكرها هؤلاء بغياً وحسداً وحفاظاً على أوضاعهم وامتيازاتهم التي حصلوا عليها بفعل التراكمات التاريخية في حركة السلطة والرئاسة في مواقعهم المختلفة .
ولذلك ،فإن الله سيحاسبه حساباً عسيراً ليعرِّفه فقدانه للحجة في أسرع وقت ،وفي ذلك إيحاءٌ بأن على الإنسان أن يركز قناعاته على أساس متين من الحجة والبرهان ليستطيع الدفاع عنها أمام الله عندما يقف للحساب بين يديه{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}[ النحل: 111] .