التوحيد حقيقة الوجود
إن القرآن الكريم يواجه المنكرين الكافرين بالله بعدة أساليب في تقريره لحقيقة الوحدانية ،فقد يتمثل ذلك في طريقة الاستدلال العقلي ،وقد يتخذ أسلوب الدليل الاستقرائي الذي يدعو إلى السير في الأرض والتأمل في خلق الله ،وقد يتمثل في الأسلوب الذي يوحي بها في مجال الإعلان بأنها الحقيقة الحاضرة التي تعبر عن نفسها من دون حاجةٍ إلى دليل ،تماماً كما هي الأمور الحسيّة التي تثبت بالحسّ ،كما في هذه الآية ،التي تبدأ الموضوع بشهادة الله أنه الواحد الذي لا إله إلا هو في حضور الحقيقة في ذاته ،وشهادة الملائكة في إدراكهم لعظمة الله من خلال منازل القرب إلى مواطن عظمته ،وأولو العلم في ما يقودهم إليه العلم من الإحساس اليقيني بهذه الحقيقة .
وفي ذلك إيحاءٌ بأن المنكرين الذين لا يشهدون بهذه الحقيقة لا ينطلقون من علم ،بل يتحركون في متاهات الجهل .والقيام بالقسط ،وهو العدل ،هو من لوازم الوحدانية التي توحي بالقوة المطلقة والغنى المطلق الذي يملك كل شيء ،ولا يحتاج شيئاً ،فكيف يمكن أن يظلم ،والظلم هو عقدة الضعيف ،كما ورد في دعاء عن الإمام الباقر( ع ) عقيب صلاة الليل: «وقد علمت يا إلهي أنه ليس في نقمتك عجلة ،ولا في حكمك ظلم ،وإنما يعجل من يخاف الموت وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف ،وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علوّاً كبيراً » .وعلى هذا ،فإن الشهادة بالوحدانية تستتبع الشهادة بأن الله هو القائم بالقسط .وقد كررت الآية كلمة التوحيد لتقرير العقيدة الواضحة من خلال هذه الشهادة العظيمة ...
وهو العزيز الحكيم ،فلا مجال للانتقاص من عزته من قِبَل أيّ أحد من خلقه في كل ما يفعله وما يقوله ،ولا مجال للتشكيك في حكمته في ما خلق ودبّر وفي ما نظَّم للحياة من قوانين كونية في ظواهر الكون ومن قوانين شرعية في تشريع الحياة للإنسان .
الشاهد والشهود على وحدانية الله
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} فهو الشاهد الأعظم الذي خلق الوجود المتحرك في كل حقائقه وتنوعاته ،وهو الذي أعطاه مضمونه ومعناه ،وهو الشاهد في ذاته من خلال حضور الذات في الذات ،وهو الخالق للكون كله ،والمطلع عليه في علمه بالنفي المطلق للشرك ،ولا يملك النفي المطلق غيره ،فإن المحدود لا يمكن أن يدرك إلا الواقع المحدود ،فلا يجد سبيلاً إلى الحقيقة في دائرة النفي إلا من خلال العقل ،لأنه لا يملك الحس الذي يشمل الوجود كله ،ليعرفمن خلالهأين يكون النفي حقيقة ،وأين يقع الإثبات في موقعه التوحيدي ،وهو الذي تنطلق شهادته في دائرة غناه الذاتي ،فلا يحتاج إلى أن يعرفه أحد من خلقه ،لتكون الشهادة وسيلة من وسائله الحيّة في الوصول ،ذلك لأن معرفة خلقه له حاجة حيوية للإحساس بمعنى وجودهم ،والانفتاح على مصدر القوة الذي هو مصدر الوجود في حياتهم .
وتلك هي الشهادة التي تمنح الحقيقة لكل مخلوق حيّ ،فيحس بها في ذاتياته ،حتى لتتحول في داخله إلى ما يشبه إحساس الذات بالذات في معنى الفطرة ،وقد تحدّث البعض عن النزاع في أن الشهادة هي بالقول أو بالفعل ،ونحن لا نرى في هذا الحديث فائدةً يتحرك النفي أو الإثبات نحوها ،لأن الله أعطى الكلمة في الشهادة بتوحيده من خلال وحيه ،كما أعطى الواقع الشهادة الحسية المتجسدة في الكون كله الناطقة في مضمون وجودها بأنه الله الذي لا إله إلا هو في معنى الفطرة الوجودية للكون كله ،ولن تحتاج الكلمة إلى دليل في صدورها عنه ،لأن معناها في داخل ذاتها ،من حيث إن التوحيد هو حقيقة الوجود ،فهو الذي يشهد للكلمة على صدقها ،وليست هي التي تؤكد صدقه في معنى الحقيقة في ذاته .
{وَالْمَلائِكَةُ} الذين عاشوا الفناء في الله والذوبان في عبادته ،والخضوع لعظمته والخشوع أمام ربوبيته ،فهم{عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [ الأنبياء:2627] ،وهم الذين{يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [ الزمر: 75] .
ومن خلال كل هذه الأجواء الغيبية التي عاشوها في رحاب الله في وظائفهم الكونية ،وفي مسؤولياتهم السماوية ،وفي شمولية التجربة في آفاق السماء والأرض ،في الحدود التي أمكن لهم أن يصلوا إليها ويعرفوها ،أدركوا التوحيد في حقيقته التي لا ترفض أية فكرة للربوبية بعيداً عن الله ،فهم يعرفون حجم المخلوقات في دائرة تجربتهم ،ويعرفون عظمة الله في كل مظاهر خلقه ومواقع قدرته ،فلا يرون له مثيلاً ولا شريكاً ،فيشهدون من عمق الإيمان في وعيهم للحقيقة التوحيدية أنه لا إله إلا هو .
{وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ} هؤلاء الذين انفتحوا بعقولهم وتجاربهم على الوجود في تفاصيله وفي عناصره وفي مواقع العظمة فيه وأسرار الإبداع في حركته ،وتطلعوافي عملية مقارنة وتأمّل وتفكيرإلى كل مواقع القدرة في الكون مما تتحرك به المخلوقات الكبيرة العظيمة هنا وهناك ،فرأوا أنها لا تملك شيئاً من معنى العظمة وسرّ القدرة إلا بالله ،فآمنوا أنه لا إله إلا هو ،ولعلّ من الواضح أن المراد بالعلماء هنا كل الذين يملكون العلم الذي ينفتح على توحيد الله من خلال الانفتاح على أسرار عظمته وحكمته وقدرته ،ولا خصوصية لأحد في ذلك من حيث المبدأ ،ولكن هناك ما يتميز به عالمٌ عن عالمٍ في درجة المعرفة ،الأمر الذي يجعلهم في وعيٍ للتوحيد بطريقةٍ أعمق وأفقٍ أرحب .
{قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ} حال من فاعل قوله:{شَهِدَ اللَّهُ} فقد شهد الله توحيد ذاته من خلال قيامه بالعدل الذي لا ينفصل عنه ،لأن عدالته جزءٌ من معنى الألوهية ،ومظهر لغناه عن عباده ،فلا يظلمهم ،لأن الظلم دليل فقر وضعف ،وهكذا كان قيامه بالقسط في النظام الكوني بكل وجوداته ،لأنه أعطى كل موجود حقه بما منحه إياه من حاجته ،فكان الوجود كله في وعيه الذاتي الوجودي لربه مظهراً حيّاً للشهادة الكونية بتوحيده ،ولعل التركيز على القيام بالعدل ،في موقع انطلاقة الشهادة ،يوحي بأن علاقة الله بالكون في وجوده الحي والجامد ،ليست علاقة سيطرة في معنى الذات كما هي علاقة المخلوق القوي بالمخلوق الضعيف ،بل هي علاقة العدالة المرتبطة بالخالقية من موقع الرحمة ،ما جعل عدالته مظهر رحمته ،كما هيفي العمقمظهر قوته وغناه .
{لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} فهذه هي الحقيقة التي لا بد للإنسان من أن يؤكدها في نفسه لتملأ عقيدته كل وجوده ،تماماً كما تؤكد نفسها في كل موقع من مواقع الكون{الْعَزِيزُ} الذي لا ينتقص أحد من قدرته وقوته{الْحَكِيمُ} الذي يضع الأشياء في مواضعها ،ويعطي لكل واحدٍ منها موقعها ودورها في حركة النظام الكوني كله .