التّفسير:
الجميع يشهد بالوحدانية:
تعقيباً على البحث في الآيات السابقة حول المؤمنين الحقيقيين ،تشير هذه الآية إلى بعض أدلّة التوحيد ومعرفة الله فتقول بأن الله تعالى يشهد بوحدانيته ( من خلال إيجاد النظام الكوني العجيب ) ،كما تشهد الملائكة ،ويشهد بعد ذلك العلماء والذين ينظرون إلى حقائق العالم بنور العلم والمعرفة ( شهِد الله أنّه لا إله إلاَّ هُوَ والملائكةُ وأُولوا العلم ) .
بحوث
1كيف يشهد الله على وحدانيّته ؟
المقصود من شهادة الله هنا هو الشهادة العملية والعقلية ،لا الشهادة اللفظية .
أي أنّ الله بخلقه عالم المخلوقات الذي يسوده نظام موحّد ،وتتشابه قوانينه في كلّ مكان ،وتجري وفق برنامج واحد ،لتكوّن «وحدة واحدة » و «نظاماً واحداً » ،قد أظهر عملياً أنّ الخالق والمعبود في العالم ليس أكثر من واحد ،وأنّ كلّ شيء ينطلق من ينبوع واحد .وعليه فإنّ خلق هذا النظام الواحد شهادة ودليل على وحدانيّته .
أمّا شهادة الملائكة والعلماء ،فهي شهادة لفظية ،فهم بالتعبير اللفظي الذي يناسبهم يعترفون بهذه الحقيقة .أنّ هذا اللون من التفكيك في الآيات القرآنية كثير في الآية ( إنّ الله وملائكته يصلّون على النبيّ ){[549]} ،لا شكّ أنّ صلاة الله على النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) غير صلاة الملائكة عليه ،فصلاة الله هي إرسال الرحمة ،وصلاة الملائكة هي طلب الرحمة .
بديهيّ أنّ لشهادة الملائكة والعلماء جانبها العملي أيضاً ،ذلك لأنّهم لا يعبدون سواه ،ولا يخضعون لمعبود غيره .
2ما القيام بالقسط ؟
إنّ عبارة ( قائماً بالقسط ) حال من فاعل «شهد » وهو «الله » .أي أنّ الله يشهد بوحدانيّته في حالة كونه قائماً بالعدالة في عالم الوجود .وهذا في الحقيقة دليل على شهادته ،لأنّ العدالة هي اختيار الطريق الوسط والمستقيم ،بمعزل عن كلّ إفراط وتفريط وانحراف .ونعلم أنّ الطريق الوسط المستقيم لابدّ أن يكون طريقاً واحداً ،كما نقرأ في الآية 153 من سورة الأنعام ( وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتّبعوا السُبُل فَتَفَرَّقَ بِكم عن سبيلهِ ) .
تقول هذه الآية إنّ طريق الله واحد ،بينما طرق المنحرفين والبعيدين عن الله متعدّدة ومتناثرة ،وذلك لورود الصراط المستقيم بصيغة المفرد ،وسُبل المنحرفين بصيغة الجمع .
النتيجة هي أن «العدالة » تصاحب «النظام الواحد » ،والنظام الواحد دليل على «المبدأ الواحد » .وبناءً على ذلك فإنّ العدالة بمعناها الحقيقي في عالم الخلق دليل على وحدانية الخالق ،فتأمّل .
3أهمية العلماء
العلماء في هذه الآية وضِعوا إلى جانب الملائكة ،وهذا بذاته تمييز للعلماء على غيرهم .كما يستفاد من الآية أنّ العلماء إنّما امتازوا على غيرهم لأنّهم بعلمهم توصّلوا إلى معرفة الحقائق ،وعلى رأسها معرفة وحدانية الله .
من الواضح أنّ الآية تشمل جميع العلماء ،أمّا قول بعض المفسّرين بأنّ ( أُولوا العلم ) هم الأئمّة الأطهار ( عليهم السلام ) فلأن الأئمّة من أظهر مصاديق ذلك .
ينقل المرحوم الطبرسي في «مجمع البيان » ضمن تفسير هذه الآية ،عن جابر بن عبد الله الأنصاري ،عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال: «ساعة من عالم يتّكىء على فراشه ينظر في علمه خير من عبادة العابد سبعين عاماً » .
يتكرّر تعبير ( لا إله إلاَّ هو ) في نهاية الآية ،ولعلّ التكرار إشارة إلى أنّه ما جاءت في البداية شهادة الله والملائكة والعلماء ،كذلك على من يسمع هذه الشهادات أن يردّدها هو أيضاً معهم ،ويشهد على وحدانية المعبود .
ولمّا كان قوله ( لا إله إلاَّ هو ) تعظيماً وإظهاراً لوحدانيّته ،فقد اختتم بالصفتين «العزيز » و «الحكيم » لأنّ القيام بالقسط يتطلّب القدرة والحكمة ،وأن الله القادر على كلّ شيء ،والعليم بكلّ شيء هو وحده القادر على إجراء العدالة في عالم الوجود .
هذه الآية من الآيات التي كانت موضع اهتمام رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دائماً وكان يردّدها في مواضع مختلفة .
وروي عن الزبير بن العوام قال: قلت لأدنونّ هذه العشية من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهي عشية عرفة ،حتّى أسمع ما يقول ...،فسمعته يقول: ( شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو ) الآية ،فما زال يرددها حتّى رفع{[550]} .