{ شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم18 إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب19}
بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أوصاف المؤمنين في تبتلهم ،وصدق إيمانهم ،وإذعان نفوسهم ،وصبرهم وضبط شهواتهم ؛وهنا يبين حقيقة الإيمان والإسلام وان الإسلام شريعة النبيين أجمعين ،وهو دين الله المتين ؛وابتدأ سبحانه بحقيقة الإيمان فقال:
{ شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط}الشهادة:الحضور ،إما بالبصر ، وغما بالبصيرة ؛ومن هذا المعنى قوله تعالى:{ ليشهدوا منافع لهم . . .28}[ الحج]وقوله تعالى:{ وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين2}[ النور] ثم أطلقت الشهادة على الإخبار المبني على المشاهدة والمعاينة ،ثم أطلقت بمعنى العلم ،وبمعنى الحكم ؛ومن ذلك قوله تعالى:{ وشهد شاهد من اهلها . . .26}[ يوسف] .
وقوله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة:{ شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم}للعلماء في تفسير الشهادة فيه طريقان:
أحدهما:ان الشهادة الإخبار ،وقد اخبر الله سبحانه وتعالى عن وحدانيته بالآيات القرآنية التي انزلها على نبيه في القرآن الكريم مثل قوله تعالى:{ الله لا إله إلا هو الحي القيوم . . .55}[ البقرة]وقوله تعالى:{ قل هو الله احد1الله الصمد2 لم يلد ولم يولد3ولم يكن له كفؤا احد4}[ الإخلاص[ واخبر الله سبحانه وتعالى عن وحدانيته أيضا بالآيات الكونية التي وجه النظار إليها من خلق السموات والأرض وما بينهما ،ومن تسخير الشمس والقمر ،ومن إيلاج الليل في النهار .واخبر سبحانه عن وحدانيته بالأدلة القاطعة التي أشار إليها في كتابه العزيز ،من مثل قوله تعالى:{ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون22}[ الأنبياء] .
وإخبار الملائكة عن وحدانيته سبحانه ،بعبادتهم له سبحانه وطاعتهم المستمرة{ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون6}[ التحريم]ونزولهم على الأنبياء بأخبار الوحدانية .
وشهادة أولى العلم من الناس هي إخبارهم أيضا بما يستنبطونه من الأدلة العلمية الكونية الدالة على وحدانيته سبحانه ،وتصديقهم لما جاء به الرسل ،ونطقهم بما آمنوا به ودعوتهم إليه ؛وهذه الشهادة مختصة بأهل العلم الذين قد اخلصوا في طلب الحقيقة ؛فقد قال تعالى عن الجهال:{ ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق انفسهم . . .51}[ الكهف] .
وفي إجماع هذه الأخبار-إخبار خالق الكون ، وإخبار الملائكة الأطهار ، وبنى آدم الأبرار-دليل على انه معنى مقرر لا مجال لأن يرتاب فيه عاقل .
المعنى الثاني للشهادة في قوله تعالى{ شهد الله انه لا إله إلا هو}هو العلم .والمعنى:علم الله في علمه الأزلي ،وعلم الملائكة بفطرهم وبما أنشاهم عليه رب العالمين ،وعلم اهل العلم من الناس باستنباطهم وتقصيهم لأنواع الاستدلال المختلفة انه لا إله غلا هو .وفي جمع العلم على هذا النحو إشارة على ان أنواع العلم الثلاثة قد اتفقت على الوحدانية .فعلم الله الأزلي ،قد تلاقى مع علم الملائكة النوراني وعلم الناس الاستدلالي على ان الله واحد ،فكيف يختلف الناس فيه ؟ !تعالى الله سبحانه وتعالى علوا كبيرا .
وقوله تعالى:{ قائما بالقسط}معناه انه هو الواحد الأحد ،الذي يسيطر على العالم بالقسط والعدل والميزان ،وكل شئ في هذا الكون بمقدار ،يسير على نظام محكم بقدرته سبحانه ،لا يتعدى أي جزء من أجزاء ذلك الكون الطور الذي أعده الله سبحانه له ،كما قال سبحانه:{ والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم38}[ يس]وهذا التعبير السامي{ قائما بالقسط}فيه مع المعنى الذي ذكرناه إشارة إلى مقام الربوبية ،وهو انه وحده المستحق للعبادة ،ما دام هو وحده القائم على كل شئ وفيه إشارة على مقام العبودية ،وهو انه لا يعبد سواه ،فلا قوة لحد او لشئ بجوار قدرة الله ؛فهو سبحانه الديان ،والمجازى للخلق على ما يعملون ،بمقتضى قيامه على هذا الكون بالقسط ،فإنه بحكم القسط لا يستوي الذين يعملون الخير ،والذين يعملون الشر ؛ولهذا نقول:إن في هذه الجملة الكريمة{ قائما بالقسط}إشارة أيضا إلى اليوم الآخر وما فيه من حساب وعقاب وثواب .
وكرر سبحانه تقرير الوحدانية فقال:
{ لا إله إلا هو العزيز الحكيم}وفي هذا التكرار إشارات إلى معان جديدة .
منها:الإشارة إلى انه سبحانه وتعالى لا يترك الناس سدى ،فهو بمقتضى انفراده بالربوبية والألوهية والعبودية ،وقد شرع الشرائع بمقتضى حكمته ،وهو يحميها بعزته وسلطانه ؛ولذا وصف سبحانه بأنه{ العزيز الحكيم}أي الذي يدير هذا الكون وأمور الناس ،ويشرع لهم الشرائع ويحميها ؛ لأنه العزيز الحكيم .
ثم في هذا النص أيضا إشارة إلى كمال سلطانه وانفراده وحده بهذا السلطان .
وفيه أيضا رد على الذين يتخذون لله شفعاء يحسبون ان لهم سلطانا ،وما لحد عند رب العالمين من سلطان ،فكل خلقه بالنسبة لقدرته وعلمه وإرادته سواء .
وقبل ان نترك القول في هذه الآية الكريمة لا بد من ان نتكلم كلمة موجزة في أولى العلم ؛فمن هم أولو العلم الذين قرن اسمهم باسم الملائكة بل بلفظ الجلالة ،ووضعت شهادتهم مع شهادته سبحانه ، وشهادة ملائكته الأطهار ؟هذا سؤال يتردد في نفس كل قارئ يتلو كتاب الله العظيم .ونقول في الإجابة عنه:
إنهم الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى في قوله:{ إنما يخشى الله من عباده العلماء . . .28}[ فاطر]وهم الذين وصفهم الله تعالى بالتفويض والإخلاص في قوله:{ والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب7}[ آل عمران]ولذا نرى ان اول وصف من أوصافهم الإخلاص في طلب الحقيقة ،والصدق في القول والعمل ،فلا يقال لهم مثلا:{ لم تقولون ما لا تفعلون2 كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون3}[ الصف] وقد أشار سبحانه إلى وصف آخر من أوصافهم فقال:{ وأولوا العلم}أي الذين صاحبوا العلم ولزموه ، واتجهوا إلى المعاني الروحية ،ولم يخلطوا بالمعاني العلمية الرغائب المادية ،ولم يجعلوا العلم مطية للأهواء والمآرب المادية ؛فهاتان صفتان لازمتان او هما خاصتان من خواص العلماء ،وهما الإخلاص ،والانصراف التام لطلب الحقائق العلمية بألا يجعل العلم طريقا للمنافع الذاتية الآثمة . ولقد قال رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في العلماء الذين كانت فيهم هاتان الخاصتان:"العلماء أمناء الله على خلقه"{[474]} وقال فيهم:"العلماء ورثة الأنبياء ،يحبهم اهل السماء ،وتستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا"{[475]} .
هؤلاء هم العلماء الذين قرنت شهادتهم بشهادة الله والملائكة ،فإن لم يكونوا كذلك فإنه يخشى أن يكونوا ممن خوف أمته منهم في مثل ما روى عنه عليه الصلاة والسلام انه قال:"أخوف ما اخاف على أمتي رجل منافق ،عليم اللسان غير حكيم القلب ،يغيرهم بفصاحته"{[476]} .