تضمنت هذه الآية الكريمة:إثبات حقيقة التوحيد ، والرد على جميع هذه الطوائف - التي فصل عقائدها الباطلة قبل هذا - والشهادة ببطلان أقوالهم ، ومذاهبهم . وهذا إنما يتبين بعد فهم الآية ، ببيان ما تضمنته من المعارف الإلهية ، والحقائق الإيمانية .
فتضمنت هذه الآية:أجل شهادة وأعظمها ، وأعدلها وأصدقها ، من أجل شاهد ، بأجل مشهود .
وعبارات السلف في ( شهد ) تدور على:الحكم والقضاء ، والإعلام والبيان والإخبار .
قال مجاهد:حكم وقضى ، وقال الزجاج:بين ، وقالت طائفة:أعلم وأخبر .
وهذه الأقوال كلها حق ، لا تنافي بينها . فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد ، وخبره وقوله . وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه . فلها أربع مراتب:
فأول مراتبها:علم ومعرفة ، واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته .
وثانيها:تكلمه بذلك ونطقه به . وإن لم يعلم به غيره ، بل يتكلم به مع نفسه ، ويذكرها وينطق بها ، أو يكتبها .
وثالثها:أن يعلم غيره بما شهد به ، ويخبره به ، ويبينه له .
ورابعها:أن يلزمه بمضمونها ويأمره به .
فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية ، والقيام بالقسط ، تضمنت هذه المراتب الأربعة:علم الله سبحانه بذلك ، وتكلمه به ، وإعلامه ، وإخباره خلقه به ، وأمرهم وإلزامهم به .
أما مرتبة العلم:فإن الشهادة بالحق تتضمنها ضرورة ، وإلا كان الشاهد شاهدا بما لا علم له به . قال الله تعالى:{ إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} [ الزخرف:86] وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«على مثلها فاشهد » وأشار إلى الشمس .
وأما مرتبة التكلم والخبر:فمن تكلم بشيء وأخبر به فقد شهد به . وإن لم يتلفظ بالشهادة . قال تعالى:{ قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم} [ الأنهام:150] ، وقال تعالى:{ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم سنكتب شهادتهم ويسألون} [ الزخرف:19] فجعل ذلك منهم شهادة ، وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ، ولم يؤدوها عند غيرهم . قال النبي صلى الله عليه وسلم:«عدلت شهادة الزور الإشراك بالله » .
وشهادة الزور:هي قول الزور ، كما قال تعالى:{ واجتنبوا قول الزور * حنفاء لله غير مشركين به} [ الحج:30 . 31] وعند نزول هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«عدلت شهادة الزور الإشراك بالله » فسمى قول الزور شهادة .
وسمى الله تعالى إقرار العبد على نفسه شهادة ، قال تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} [ النساء:135] .
فشهادة المرء على نفسه:هي إقراره على نفسه . وفي الحديث الصحيح في قصة ماعز:«فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم » .
وقال تعالى:{ قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} [ الأنعام:130] .
وهذا وأضعافه يدل على أن الشاهد عند الحاكم وغيره لا يشترط في قبول شهادته أن يتلفظ بلفظ الشهادة ، كما هو مذهب مالك وأهل المدينة ، وظاهر كلام أحمد .
ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين اشتراط ذلك ، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما «شهد عندي رجال مرضيون - وأرضاهم عندي عمر - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، وبعد العصر حتى تغرب الشمس » ، ومعلوم أنهم لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ، والعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ، لم يتلفظ في شهادته لهم بلفظ الشهادة ، بل قال صلى الله عليه وسلم:«أبو بكر في الجنة ، وعمر في الجنة ، وعثمان في الجنة ، وعلي في الجنة – الحديث » .
وأجمع المسلمون على أن الكافر إذا قال:( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) فقد دخل في الإسلام ، وشهد شهادة الحق ، ولم يتوقف إسلامه على لفظ الشهادة ، وأنه قد دخل في قوله صلى الله عليه وسلم:«حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله » ، وفي لفظ آخر:«حتى يقولوا لا إله إلا الله » .
فدل على أن قولهم:( لا إله إلا الله ) شهادة منهم ، وهذا أكثر من أن تذكر شواهده من الكتاب والسنة ، فليس مع من اشترط لفظ الشهادة دليل يعتمد عليه والله أعلم .
وأما مرتبة الإعلام والإخبار:فنوعان:
( إعلام بالقول ، وإعلام بالفعل ) . وهذا شأن كل معلم لغيره بأمر ؛ تارة يعلمه بقوله ، وتارة بفعله .
ولهذا كان من جعل دارا مسجدا وفتح بابها لكل من دخل إليها ، وأذن بالصلاة فيها - معلما أنها وقف ، وإن لم يتلفظ به . وكذلك من وجد متقربا إلى غيره بأنواع المسار - معلما له ولغيره أنه يحبه وإن لم يتلفظ بقوله . وكذلك بالعكس .
وكذلك شهادة الرب جل جلاله وبيانه وإعلامه:يكون بقوله تارة ، وبفعله تارة أخرى .
فالقول:هو ما أرسل به رسله ، وأنزل به كتبه ، ومما قد علم بالاضطرار:أن جميع الرسل أخبروا عن الله أنه شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو . وأخبر بذلك . وأمر عباده أن يشهدوا به .
وشهادته سبحانه ( أنه لا إله إلا الله ) معلومة من جهة كل من بلغ عنه كلامه .
وأما بيانه وإعلامه بفعله:فهو ما تضمنه خبره تعالى عن الأدلة الدالة على وحدانيته التي تعلم دلالتها بالعقل والفطرة .
وهذا أيضا يستعمل فيه لفظ الشهادة ، كما يستعمل فيه لفظ الدلالة ، والإرشاد والبيان ، فإن الدليل يبين المدلول عليه ويظهره . كما يبينه الشاهد والمخبر بل قد يكون البيان بالفعل أظهر وأبلغ . وقد يسمى شاهد الحال نطقا وقولا له وكلاما ، لقيامه مقامه ، وأدائه مؤداه ، كما قيل:
وقالت له العينان:سمعا وطاعة *** وحدرتا بالدر لما يثقب
وقال الآخر:
شكا إلي جملي طول السرى *** صبرا جميلي ، فكلانا مبتلى
وقال الآخر
امتلأ الحوض ، وقال:قطني *** مهلا رويدا ، قد ملأت بطني
ويسمى هذا شهادة أيضا ، كما في قوله تعالى:{ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر} [ التوبة:17] فهذه شهادة منهم على أنفسهم بما يفعلون من أعمال الكفر وأقواله ، فهي شهادة بكفرهم ، وهم شاهدون على أنفسهم بما شهدت بها عليهم .
والمقصود:أن الله سبحانه يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه . فإن دلالتها إنما هي بخلقه وجعله ، ويشهد بآياته القولية الكلامية المطابقة لما شهدت به آياته الخلقية ، فتتطابق شهادة القول وشهادة الفعل ، كما قال تعالى:{ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} [ فصلت:53] . أي أن القرآن حق فأخبر أنه يدل بآياته الأفقية والنفسية على صدق آياته القولية الكلامية .
وهذه الشهادة الفعلية:قد ذكرها غير واحد من أئمة العربية والتفسير . قال ابن كيسان:شهد الله بتدبيره العجيب ، وأموره المحكمة عند خلقه:أنه لا إله إلا هو .
فصل
وأما المرتبة الرابعة:( وهي الأمر بذلك والإلزام به ) ، وإن كان مجرد الشهادة لا يستلزمه ، لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه ، وتتضمنه . فإنه سبحانه شهد به شهادة من حكم به ، وقضى وأمر ، وألزم عباده به كما قال تعالى:{ وقضى ربك أن ألا تعبدوا إلا إياه} [ الإسراء:23] وقال تعالى:{ وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد} [ النحل:51] وقال تعالى:{ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [ البينة:5] وقال تعالى:{ لا تجعل مع الله إلها آخر} [ الإسراء:22] ، وقال تعالى:{ فلا تدع مع الله إلها آخر} [ الشعراء:213] والقرآن كله شاهد بذلك .
ووجه استلزام شهادته سبحانه لذلك:أنه إذا شهد أنه لا إله إلا هو فقد أخبر ، وبين وأعلم وحكم وقضى أن ما سواه ليس بإله ، وأن إلهية ما سواه أبطل الباطل ، وإثباتها أظلم الظلم . فلا يستحق العبادة سواه ، كما لا تصلح الإلهية لغيره . وذلك يستلزم الأمر باتخاذه وحده إلها ، والنهي عن اتخاذ غيره معه إلها .
وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والإثبات ، كما إذا رأيت رجلا يستفتى أو يستشهد ، أو يستطب من ليس أهلا لذلك ، ويدع من هو أهل ، فتقول له:هذا ليس بمفت ، ولا شاهد ، ولا طبيب ، المفتي فلان ، والشاهد فلان ، والطبيب فلان . فإن هذا أمر منك ونهي .
وأيضا:فإن الأدلة قد دلت أنه سبحانه وحده المستحق للعبادة ، فإذا أخبر أنه هو وحده المستحق للعبادة تضمن هذا الإخبار أمر العباد وإلزامهم بأداء ما يستحقه الرب تعالى عليهم ، وأن القيام بذلك هو خالص حقه عليهم . فإذا شهد سبحانه أنه لا إله إلا هو تضمنت شهادته الأمر والإلزام بتوحيده .
وأيضا:فلفظ الحكم والقضاء . يستعمل في الجمل الخبرية ، ويقال للجملة الخبرية قضية وحكم ، وقد حكم فيها بكيت وكيت . قال تعالى:{ ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون * أصطفى البنات على البنين * مالكم كيف تحكمون} [ الصافات:151 . 154] لكن هذا حكم لا إلزام معه ، والحكم والقضاء بأنه لا إله إلا هو:متضمن للإلزام . والله سبحانه أعلم .
فصل
تفسير قوله تعالى:{ قائما بالقسط}
«القسط » هو العدل . فشهد الله سبحانه أنه قائم بالعدل في توحيده ، وبالوحدانية في عدله .
والتوحيد والعدل:هما جماع صفات الكمال . فإن التوحيد يتضمن تفرده سبحانه بالكمال والجلال ، والمجد والتعظيم الذي لا ينبغي لأحد سواه . والعدل يتضمن وقوع أفعاله كلها على السداد والصواب ، وموافقة الحكمة .
فهذا توحيد الرسل وعدلهم ، إثبات حقائق الأسماء والصفات على ما يليق بالرب سبحانه ، والأمر بعبادة الله وحده لا شريك له ، وإثبات القدر ، والحكم والغايات المحمودة بفعله وأمره ، لا توحيد الجهمية والمعتزلة والقدرية . الذي هو إنكار الصفات ، وحقائق الأسماء الحسنى ، وعدلهم الذي هو التكذيب بالقدر ، أو نفي الحكم والغايات والعواقب الحميدة التي يفعل الله لأجلها ويأمر .
وقيامه سبحانه بالقسط في شهادته:يتضمن أمورا .
أحدها:أنه قائم بالقسط في هذه الشهادة التي هي أعدل شهادة على الإطلاق ، وإنكارها وجحودها أظلم الظلم على الإطلاق ، فلا أعدل من توحيد الرسل . ولا أظلم من الشرك . فهو سبحانه قائم بالعدل في هذه الشهادة قولا وفعلا ، حيث شهد بها وأخبر ، وأعلم عباده وبين لهم تحقيقها وصحتها ، وألزمهم بمقتضاها ، وحكم به ، وجعل الثواب والعقاب عليها ، وجعل الأمر والنهي من حقوقها وواجباتها .
فالدين كله من حقوقها . والثواب كله عليها . والعقاب كله على تركها . وهذا هو العدل الذي قام به الرب تعالى في هذه الشهادة .
فأوامره كلها تكميل لها . وأمر بأداء حقوقها .
ونواهيه كلها صيانة لها عما يهدمها ويضادها .
وثوابه كله عليها ، وعقابه كله على تركها ، وترك حقوقها .
وخلقه السموات والأرض وما بينهما كان بها ولأجلها .
وهي الحق الذي خلقت به المخلوقات ، وضدها هو الباطل والعبث الذي نزه الله نفسه عنه ، وأخبر أنه لم يخلق به السموات والأرض .
قال تعالى ردا على المشركين المنكرين لهذه الشهادة:{ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار} [ ص:27] ، وقال تعالى:{ حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم * ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون} [ الأحقاف:1 . 3] ، وقال تعالى:{ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون} [ يونس:5] ، وقال تعالى:{ أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون} [ الروم:8] ، وقال تعالى:{ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق} [ الحجر:85]{ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون} [ الدخان:38 . 39] وهذا كثير في القرآن .
والحق الذي خلقت به السموات والأرض ، ولأجله هو التوحيد وحقوقه من الأمر والنهي ، والثواب والعقاب ، والشرع والقدر والخلق ، والثواب والعقاب قائم بالعدل . والتوحيد صادر عنهما ، وهذا هو الصراط المستقيم الذي عليه الرب سبحانه وتعالى . قال تعالى حكاية عن نبيه هود عليه السلام أنه قال:{ إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم} [ هود:56] فهو سبحانه على صراط مستقيم في قوله وفعله . فهو يقول الحق ويفعل العدل{ وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} [ الأنعام:115]{ والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} [ الأحزاب:4] .
فالصراط المستقيم الذي عليه ربنا تبارك وتعالى:هو مقتضى التوحيد والعدل .
قال تعالى:{ وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم} [ النحل:76] .
والصنم مثل العبد الذي هو كل على مولاه ، أينما يوجهه لا يأت بخير .
والمقصود:أن قوله تعالى{ قائما بالقسط} هو كقوله:{ إن ربي على صراط مستقيم} [ هود:56] .
وقوله:{ قائما بالقسط}:نصب على الحال وفيه وجهان .
أحدهما:أنه حال من الفاعل في شهد الله والعامل فيه معنى الفعل .
والمعنى على هذا:شهد الله حال قيامه بالقسط أنه لا إله إلا هو .
والثاني:أنه حال من قوله «هو » والعامل فيها معنى النفي ، أي:لا إله إلا هو حال كونه قائمة بالقسط .
وبين التقديرين فرق ظاهر . فإن التقدير الأول يتضمن أن المعنى:شهد الله متكلما بالعدل به ، آمرا به ، فاعلا له ، مجازيا عليه:أنه لا إله إلا هو . فإن العدل يكون في القول والفعل ، و«المقسط »:هو العادل في قوله وفعله . فشهد الله قائما بالعدل قولا وفعلا أنه لا إله إلا هو . وفي ذلك تحقيق لكون هذه الشهادة شهادة عدل وقسط . وهي أعدل شهادة ، كما أن المشهود به أعدل شيء ، وأصحه وأحقه .
وذكر ابن السائب وغيره في سبب نزول الآية:ما يشهد بذلك . وهو أن حبرين من أحبار الشام قدما على النبي صلى الله عليه وسلم . فلما أبصرا المدينة ، قال أحدهما لصاحبه:ما أشبه هذه المدينة بمدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم قالا له:أنت محمد ؟ قال صلى الله عليه وسلم:«نعم » ، قالا:وأحمد ؟ قال:«نعم » ، قالا:نسألك عن شهادة فإن أخبرتنا بها آمنا بك . قال صلى الله عليه وسلم:«سلاني » . قالا:أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فنزلت:{ شهد الله أنه لا إله إلا هو} الآية .
وإذا كان القيام بالقسط يكون في القول والفعل ، كان المعنى:أنه كان سبحانه يشهد ، وهو قائم بالعدل عالم به ، لا بالظلم . فإن هذه الشهادة تضمنت قولا وعملا .
فإنها تضمنت أنه هو الذي يستحق العبادة وحده دون غيره ، وأن الذين عبدوه وحده هم المفلحون السعداء . وأن الذين أشركوا به غيره ، هم الضالون الأشقياء . فإذا شهد قائما بالعدل المتضمن جزاء المخلصين بالجنة ، وجزاء المشركين بالنار:كان هذا من تمام موجب الشهادة ، وتحقيقها .
وكان قوله:{ قائما بالقسط} تنبيها على جزاء الشاهد بها والجاحد لها . والله أعلم .
فصل
وأما التقدير الثاني - وهو أن يكون قوله{ قائما} حالا مما بعد{ إلا} – فالمعنى:أنه لا إله إلا هو قائما بالعدل . فهو وحده المستحق الإلهية ، مع كونه قائما بالقسط .
قال شيخنا:وهذا التقدير أرجح . فإنه يتضمن أن الملائكة وأولي العلم ، يشهدون له بأنه لا إله إلا هو ، وأنه قائم بالقسط .
قلت:مراده:أنه إذا كان قوله{ قائما بالقسط} حالا من المشهود به:فهو كالصفة له . فإن الحال صفة في المعنى لصاحبها . فإذا وقعت الشهادة على ذي الحال وصاحبها ، كان كلاهما مشهودا به ، فيكون الملائكة وأولوا العلم قد شهدوا بأنه قائم بالقسط ، كما شهدوا بأنه لا إله إلا هو .
والتقدير الأول لا يتضمن ذلك ، فإنه إذا كان التقدير:شهد الله قائما بالقسط ، أنه لا إله إلا هو ، والملائكة وأولو العلم يشهدون أنه لا إله إلا هو - كان القيام بالقسط حالا من اسم الله وحده .
وأيضا:فكونه قائما بالقسط فيما شهد به أبلغ من كونه حالا من مجرد الشهادة .
فإن قيل:فإذا كان حالا من «هو » فهلا اقترن به ؟ ولم فصل بين صاحب الحال وبينهما بالمعطوف ، فجاء متوسطا بين صاحب الحال وبينهما ؟
قلت:فائدته ظاهرة . فإنه لو قال:شهد الله أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط والملائكة وأولو العلم ، - أوهم عطف الملائكة وأولي العلم على الضمير في قوله{ قائما بالقسط} ويحسن العطف لأجل الفصل . وليس المعنى على ذلك قطعا . وإنما المعنى على خلافه . وهو أن قيامه بالقسط مختص به كما أنه مختص بالإلهية . فهو وحده الإله المعبود المستحق للعبادة . وهو وحده المجازي المثيب المعاقب بالعدل .
قوله{ لا إله إلا هو} ذكر محمد بن جرير الطبري أنه قال:الأولى وصف وتوحيد . والثانية:رسم وتعليم ، أي:«قولوا:لا إله إلا هو » .
ومعنى هذا:أن الأولى تضمنت أن الله سبحانه شهد بها وأخبر بها . والتالي للقرآن إنما يخبر عن شهادة الله . لا عن شهادته هو . وليس في ذلك شهادة من التالي نفسه ، فأعاد سبحانه ذكرها مجردة ليقولها التالي . فيكون شاهدا هو بها أيضا .
وأيضا:فالأولى خبر عن الشهادة بالتوحيد . والثانية خبر عن نفس التوحيد . وختم بقوله{ العزيز الحكيم} ، فتضمنت الآية توحيده وعدله ، وعزته وحكمته .
فالتوحيد:يتضمن ثبوت صفات كماله ، ونعوت جلاله ، وعدم المماثل له فيها ، وعبادته وحده لا شريك له .
والعدل:يتضمن وضعه الأشياء موضعها ، وتنزيلها منازلها ، وأنه لم يخص شيئا منها إلا بمخصص اقتضى ذلك ، وأنه لا يعاقب من لا يستحق العقوبة ، ولا يمنع من يستحق العطاء ، وإن كان هو الذي جعله مستحقا .
والعزة:تتضمن كمال قدرته ، وقوته وقهره .
والحكمة:تتضمن كمال علمه وخبرته ، وأنه أمر ونهى ، وخلق وقدر ، لما له في ذلك من الحكم والغايات الحميدة التي يستحق عليها كمال الحمد .
فاسمه «العزيز » يتضمن الملك .
واسمه «الحكيم » يتضمن الحمد . وأول الآية يتضمن التوحيد ، وذلك حقيقة:«لا إله إلا الله وحده لا شريك له . له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير » .
وذلك أفضل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبيون من قبله .
و«الحكيم » الذي إذا أمر بأمر كان حسنا في نفسه ، وإذا نهى عن شيء كان المنهى عنه قبيحا في نفسه ، وإذا أخبر بخبر كان صدقا ، وإذا فعل فعلا كان صوابا . وإذا أراد شيئا كان أولى بالإرادة من غيره .
وهذا الوصف على الكمال:لا يكون إلا لله وحده .
فتضمنت هذه الآية ، وهذه الشهادة وحدانيته المنافية للشرك ، وعدله المنافي للظلم ، وعزته المنافية للعجز ، وحكمته المنافية للجهل والعيب .
ففيها:الشهادة له بالتوحيد والعدل والقوة ، والعلم والحكمة ، ولهذا كانت أعظم شهادة .
ولا يقوم بهذه الشهادة على وجهها من جميع الطوائف إلا أهل السنة ، وسائر طوائف أهل البدع لا يقومون بها .
فالفلاسفة أشد الناس إنكارا لها ، وجحودا لمضمونها من أولها إلى آخرها .
وطوائف الاتحادية:هم أبعد خلق الله منها من كل وجه .
وطائفة الجهمية:تنكر حقيقتها من وجوه .
منها:أن «الإله » هو الذي تألهه القلوب محبة له واشتياقا إليه ، وإنابة . وعندهم:أن الله لا يحب ولا يُحَب .
ومنها:أن «الشهادة » كلامه وخبره عما شهد به . وهو عندهم:لا يقول ولا يتكلم ، ولا يشهد ولا يخبر .
ومنها:أنها تضمنت مباينته لخلقه بذاته وصفاته ، وعند فرعونيهم:أنه لا يباين الخلق ولا يحايثهم ، وليس فوق العرش إله يعبد ، ولا رب يصلى له ويسجد .
وعند حلوليتهم:أنه حال في كل مكان بذاته ، حتى في الأمكنة التي يستحي من ذكوها . فهؤلاء الجهمية ، وأولئك نفاتهم .
ومنها:أن قيامه بالقسط في أفعاله وأقواله . وعندهم:أنه لم يقم به فعل . ولا قول البتة ، وأن قوله مخلوق من بعض المخلوقات ، وفعله هو المفعول المنفصل ، وأما أن يكون له فعل يكون به فاعلا حقيقة فلا .
ومنها:أن «القسط » عندهم لا حقيقة له ، بل كل ممكن فهو قسط . وليس في مقدوره ما يكون ظلما وقسطا ، بل الظلم عندهم:هو المحال الممتنع لذاته ، والقسط:هو الممكن فنزه الله نفسه سبحانه - على قولهم - عن المحال الممتنع لذاته ، الذي لا يدخل تحت القدرة .
ومنها:أن «العزة » هي القوة والقدرة ، وعندهم:لا يقوم به صفة .
ومنها:أن «الحكمة » هي الغاية التي يفعل لأجلها ، وتكون هي المطلوبة بالفعل ، ويكون وجودها أولى من عدمها . وهذا عندهم ممتنع في حقه سبحانه وتعالى . فلا يفعل لحكمة ، ولا غاية لفعله ولا أمره ، وما ثم إلا محض المشيئة المجردة عن الحكمة والتعليل .
ومنها:أن «الإله » هو الذي له الأسماء الحسنى ، والصفات العلى . وهو الذي يفعل بقدرته ، ومشيئته وحكمته . وهو الموصوف بالصفات والأفعال ، المسمى بالأسماء التي قامت بها حقائقها ومعانيها . وهذا لا يثبته على الحقيقة إلا أتباع الرسل ، وهم أهل العدل والتوحيد على الحقيقة .
[ فصل:الفرق الضالة غير قائمين بالشهادة]
فالجهمية والمعتزلة:تزعم أن ذاته لا تحب . ووجهه لا يرى ولا يلتذ بالنظر إليه ، ولا تشتاق القلوب إليه ، فهم في الحقيقة منكرون للإلهية .
والقدرية:تنكر دخول أفعال الملائكة والجن والإنس وسائر الحيوان تحت قدرته ومشيئته وخلقه . فهم منكرون في الحقيقة لكمال عزته وملكه .
والجبرية:تنكر حكمته ، وأن يكون له في أفعاله وأوامره غاية يفعل ويأمر لأجلها ، فهم منكرون في الحقيقة لحكمته وحمده .
وأتباع ابن سينا والنصير الطوسي وفروخهما:ينكرون أن يكون ربهم ماهية غير الوجود المطلق ، وأن يكون له وصف ثبوتي زائد على ماهية الوجود . فهم في الحقيقة منكرون لذات ربنا وصفاته وأفعاله ، لا يتحاشون من ذلك .
والاتحادية:أدهى وأمر فإنهم رفعوا القواعد من الأصل ، وقالوا:ما ثم وجود خالق ووجود مخلوق ، بل الخلق المشبَّه هو عين الحق المنزه . كل ذلك من عين واحدة ، بل هو العين الواحدة .
فهذه الشهادة العظيمة:كل هؤلاء هم بها غير قائمين ، وهي متضمنة لإبطال ما هم عليه ورده ، كما تضمنت إبطال ما عليه المشركون ورده ، وهي مبطلة لقول طائفتي الشرك والتعطيل . ولا يقوم بهذه الشهادة إلا أهل الإثبات الذين يثبتون لله ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات ، وينفون عنه مماثلة المخلوقات ، ويعبدونه وحده لا يشركون به شيئا .
فصل
وإذا كانت شهادته سبحانه تتضمن بيانه لعباده ، ودلالتهم وتعريفهم لما شهد به ، وإلا فلو شهد شهادة لم يتمكنوا من العلم بها لم ينتفعوا بها ، ولم يقم عليهم بها الحجة ، كما أن الشاهد من العباد إذا كانت عنده شهادة ، ولم يبينها ، بل كتمها:لم ينتفع بها أحد ، ولم تقم بها حجة .
وإذا كان لا ينتفع بها إلا ببيانها ، فهو سبحانه قد بينها غاية البيان بطرق ثلاثة:السمع ، والبصر ، والعقل .
أما السمع:فبسمع آياته المتلوة القولية ، المتضمنة لإثبات صفات كماله ، ونعوت جلاله وعلوه على عرشه فوق سبع سمواته ، وتكلمه بكتبه ، وتكليمه لمن يشاء من عباده تكلما وتكليما ، حقيقة لا مجازا .
وفي هذا إبطال لقول من قال:إنه لم يرد من عباده ما دلت عليه آياته السمعية ، من إثبات معانيها ، وحقائقها التي وضعت لها ألفاظها . فإن هذا ضد البيان والإعلام . ويعود على مقصود الشهادة بالإبطال والكتمان . وقد ذم الله من كتم شهادة عنده من الله . وأخبر أنه من أظلم الظالمين .
فإذا كانت عند العبد شهادة من الله - تحقق ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم من أعلام نبوته ، وتوحيد مرسله ، وأن إبراهيم صلى الله عليه وسلم وأهل بيته كانوا على الإسلام كلهم - وكتم هذه الشهادة كان من أظلم الظالمين ، كما فعله أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود الذين كانوا{ يعرفونه كما يعرفون أبنائهم} .
فكيف يظن بالله سبحانه أنه كتم الشهادة الحق التي يشهد بها الجهمية والمعتزلة والمعطلة ، ولا يشهد بها لنفسه ثم يشهد لنفسه بما يضادها ويناقضها ، ولا يجامعها بوجه ما ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم .
فإن الله سبحانه شهد لنفسه بأنه استوى على العرش ، وبأنه القاهر فوق عباده ، وبأن ملائكته يخافونه من فوقهم ، وأن الملائكة تعرج إليه بالأمر ، وتنزل من عنده به ، وأن العمل الصالح يصعد إليه ، وأنه يأتي ويجيء ، ويتكلم ويرضى ويغضب ويحب وينادي ، ويفرح ويضحك وأنه يسمع ويبصر ، وأنه يراه المؤمنون بأبصارهم يوم لقائه ، إلى غير ذلك مما شهد به لنفسه ، وشهد له به رسله ، وشهدت له الجهمية بضد ذلك ، وقالوا شهادتنا أصح وأعدل من شهادة النصوص ، فإن النصوص تضمنت كتمان الحق ، وإظهار خلافه . فشهادة الرب تعالى تكذب هؤلاء أشد التكذيب وتتضمن أن الذي شهد به قد بينه وأوضحه وأظهره ، حتى جعله في أعلى مراتب الظهور والبيان ، وأنه لو كان الحق فيما يقوله المعطلة والجهمية لم يكن العباد قد انتفعوا بما شهد به سبحانه . فإن الحق في نفس الأمر عندهم لم يشهد به لنفسه ، ولم يظهره ولم يوضحه ، فليس بحق ، ولا يجوز أن يستفاد منه الحق واليقين .
وأما آياته العيانية الخلقية والنظر فيها ، والاستدلال بها . فإنها تدل على ما تدل عليه آياته القولية السمعية ، وآيات الرب:هي دلائله وبراهينه التي بها تعرف لعباده فيها يعرفون أسماءه وصفاته ، وتوحيده وأمره ونهيه .
فالرسل تخبر عنه بكلامه الذي تكلم به ، وهو آياته القولية ، ويستدلون على ذلك بمفعولاته التي تشهد على صحة ذلك ، وهي آياته العيانية . والعقل يجمع بين هذه وهذه . فيجزم بصحة ما جاءت به الرسل ، فتتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة .
وهو سبحانه لكمال عدله ورحمته وإحسانه وحكمته ومحبته للعذر ، وإقامته للحجة لم يبعث نبيا من الأنبياء إلا ومعه آية تدل على صدقه فيما أخبر به . قال تعالى:{ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} [ الحديد:25] وقال تعالى:{ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون * بالبينات والزبر} [ النحل:43 . 44] وقال تعالى:{ قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم} [ آل عمران:183] وقال تعالى:{ وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير} [ فاطر:25] حتى إن من أخفى آيات الرسل آيات هود عليه السلام حتى قال له قومه:{ يا هود ما جئتنا ببينة} [ هود:53] ومع هذا فبينته من أظهر البينات . وقد أشار إليها بقوله:{ إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم} [ هود:54 . 56] .
فهذا من أعظم الآيات:أن رجلا واحدا يخاطب أمة عظيمة بهذا الخطاب ، غير جزع ولا فزع ، ولا خور ، بل واثق مما قاله جازم به . قد أشهد الله أولا على براءته من دينهم وما هم عليه ، إشهاد واثق به ، معتمد عليه ، معلم لقومه أنه وليه وناصره ، وغير مسلطهم عليه . ثم أشهدهم إشهاد مجاهر لهم بالمخالفة:أنه بريء من دينهم وآلهتهم التي يوالون عليها ويعادون ، ويبذلون دماءهم وأموالهم في نصرتها ، ثم أكد عليهم ذلك بالاستهانة بهم ، واحتقارهم ، وازدرائهم ، وأنهم لو يجتمعون كلهم على كيده ، وشفاء غيظهم منه ، ثم يعاجلونه ولا يمهلونه ، وفي ضمن ذلك ، أنهم أضعف وأعجز وأقل من ذلك وأنكم لو رمتموه لانقلبتم بغيظكم مكبوتين مخذولين .
ثم قرر دعوته أحسن تقرير ، وبين أن ربه تعالى وربهم الذي نواصيهم بيده هو وليه ووكيله ، القائم بنصره وتأييده ، وأنه على صراط مستقيم ، فلا يخذل من توكل عليه ، وآمن به ، ولا يشمت به أعداءه ، ولا يكون معهم عليه . فإن صراطه المستقيم الذي هو عليه في قوله وفعله:يمنع ذلك ويأباه .
وتحت هذا الخطاب أن من صراطه المستقيم أن ينتقم ممن خرج عنه ، وعمل بخلافه ، وينزل به بأسه . فإن الصراط المستقيم هو العدل الذي عليه الرب تعالى . ومنه انتقامه من أهل الشرك والإجرام ، ونصره أولياءه ورسله على أعدائهم وأنه يذهب بهم ويستخلف قوما غيرهم ، ولا يضره ذلك شيئا ، وأنه القائم سبحانه على كل شيء ، حفظا ورعاية وتدبيرا وإحصاء .
فأي آية وبرهان دليل أحسن من آيات الأنبياء وبراهينهم وأدلتهم ؟ وهي شهادة من الله سبحانه لهم ، بينها لعباده غاية البيان ، وأظهرها لهم غاية الإظهار ، بقوله وفعله ، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي . فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة » .
ومن أسمائه تعالى «المؤمن » وهو في أحد التفسيرين:المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم ، فهو الذي صدق رسله وأنبياءه فيما بلغوا عنه ، وشهد لهم بأنهم صادقون بالدلائل التي دل بها على صدقهم ، قضاء وخلقا ، فإنه سبحانه أخبر وخبره الصدق وقوله الحق أنه لا بد أن يرى العباد من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغه رسله حق . فقال تعالى:{ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} [ فصلت:53] أي القرآن ، فإنه هو المتقدم في قوله:{ قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به} [ فصلت:52] ، ثم قال:{ أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} [ فصلت:53] .
فشهد سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم بقوله أن ما جاء به حق ، ووعده أن يرى العباد من آياته الفعلية الخلقية ما يشهد بذلك أيضا .
ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك وأجل وهو شهادته سبحانه على كل شيء . فإن من أسمائه «الشهيد » الذي لا يغيب عنه شيء ، ولا يعزب عنه ، بل هو مطلع على كل شيء مشاهد له ، عليم بتفاصيله .
وهذا استدلال بأسمائه وصفاته ، والأول:استدلال بقوله وكلماته ، والاستدلال بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته .
فإن قلت:قد فهمت الاستدلال بكلماته ، والاستدلال بمخلوقاته ، فبين لي كيفية الاستدلال بأسمائه وصفاته . فإن ذلك أمر لا عهد لنا به في تخاطبنا وكتبنا .
قلت:أجل ، هو لعمر الله كما ذكرت وشأنه أجل وأعلى . فإن الرب تعالى هو المدلول عليه وآياته هي الدليل والبرهان .
فاعلم أن الله سبحانه - في الحقيقة هو الدال على نفسه بآياته . فهو الدليل لعباده في الحقيقة بما نصبه لهم من الدلالات والآيات .
وقد أودع في الفطر التي لم تتنجس بالتعطيل والجحود:أنه سبحانه الكامل في أسمائه وصفاته ، وأنه الموصوف بكل كمال ، المنزه عن كل عيب ونقص . فالكمال كله والجمال والجلال ، والبهاء والعزة والعظمة والكبرياء ، كله من لوازم ذاته ، يستحيل أن يكون على غير ذلك ، فالحياة كلها له ، والعلم كله له ، والقدرة كلها له ، والسمع ، والبصر والإرادة ، والمشيئة والرحمة ، والغناء والجود ، والإحسان والبر ، كله خاص له قائم به ، وما خفي على الخلق من كماله أعظم وأعظم مما عرفوه منه ، بل لا نسبة لما عرفوه من ذلك إلى ما لم يعرفوه .
ومن كماله المقدس:إطلاعه على كل شيء ، وشهادته عليه . بحيث لا يغيب عنه وجه من وجوه تفاصيله ولا ذرة من ذراته باطنا وظاهرا ، ومن هذا شأنه ، كيف يليق بالعباد أن يشركوا به غيره ، وأن يعبدوا معه غيره ، وأن يجعلوا معه إلها آخر ؟
وكيف يليق بكماله أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب ، ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه ، ثم ينصره على ذلك ، ويؤيده ويعلي كلمته ، ويرفع شأنه ويجيب دعوته ، ويهلك عدوه ، ويظهر على يديه من الآيات والبراهين والأدلة ما تعجز عن مثله قوى البشر ؟ وهو مع ذلك كاذب عليه مفتر ، ساع في الأرض بالفساد .
ومعلوم أن شهادته سبحانه على كل شيء ، وقدرته على كل شيء وحكمته وعزته وكماله المقدس ، يأبى ذلك كل الإباء . ومن ظن ذلك به وجوزه عليه ، فهو من أبعد الخلق من معرفته ، وإن عرف منه بعض صفاته كصفة القدرة ، وصفة المشيئة .
والقرآن مملوء من هذه الطريق . وهي طريق الخاصة بل خاصة الخاصة ، هم الذين يستدلون بالله على أفعاله وما يليق به أن يفعله وما لا يفعله .
وإذا تدبرت القرآن رأيته ينادي على ذلك فيبديه ويعبده لمن له فهم ، وقلب واع عن الله . قال الله تعالى:{ ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين} [ الحاقة:44 . 47] أفلا تراه كيف يخبر سبحانه أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقول عليه بعض الأقاويل ، بل أن يجعله عبرة لعباده ، كما جرت بذلك سنته في المتقولين عليه . وقال تعالى:
{ أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك} [ الشورى:24] هنا انتهى جواب الشرط ثم أخبر خبرا جازما غير معلق{ ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته} [ الشورى:24] أنه يمح الباطل ويحق الحق .
وقال تعالى{ وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} [ الأنعام:91] فأخبر أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره ، ولا عرفه كما ينبغي ، ولا عظمه كما يستحق ، فكيف من ظن أنه ينصر الكاذب المفترى عليه ، ويؤيده ويظهر على يديه الآيات والأدلة ؟ وهذا في القرآن كثير جدا يستدل بكماله المقدس ، وأوصافه وجلاله على صدق رسله وعلى وعده ووعيده ، ويدعو عباده إلى ذلك ، كما يستدل بأسمائه وصفاته على وحدانيته وعلى بطلان الشرك كما في قوله:{ هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون} [ الحشر:22 . 23] وأضعاف أضعاف ذلك في القرآن .
ويستدل سبحانه بأسمائه وصفاته على بطلان ما نسب إليه من الأحكام والشرائع الباطلة ، وأن كماله المقدس يمنع من شرعها ، كقوله:{ وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله مالا تعلمون} [ الأعراف:28] وقوله عقيب ما نهى عنه وحرمه من الشرك والظلم والفواحش ، والقول عليه بلا علم:{ كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها} [ الإسراء:38] فأعلمك أن ما كان سيئة في نفسه فهو سبحانه يكرهه ، وكماله يأبى أن يجعله شرعا له ودينا ، فهو سبحانه يدل عباده بأسمائه وصفاته على ما يفعله ويأمر به ، ويحبه ويبغضه ، ويثيب عليه ويعاقب عليه ، ولكن هذه الطريق لا يصل إليها إلا خاصة الخاصة ، فلذلك كانت طريقة الجمهور والدلالات بالآيات المشاهدة . فإنها أوسع وأسهل تناولا ، والله سبحانه يفضل بعض خلقه على بعض ، ويرفع درجات من يشاء وهو العليم الحكيم .
فالقرآن العظيم قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره . فإنه الدعوة والحجة ، وهو الدليل والمدلول عليه ، وهو الشاهد والمشهود له ، وهو الحكم والدليل وهو الدعوة والبينة . قال الله تعالى:{ أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه} [ هود:17] أي من ربه وهو القرآن . وقال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله له:{ أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون * قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السموات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون} [ العنكبوت:51 . 52] .
فأخبر سبحانه أن الكتاب الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم يكفي من كل آية ، ففيه الحجة ، والدلالة على أنه من الله ، وأن الله سبحانه أرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفيه بيان ما يوجب لمن اتبعه السعادة وينجبه من العذاب ، ثم قال:{ قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السموات والأرض} [ العنكبوت:52] .
فإذا كان الله سبحانه عالما بجميع الأشياء كانت شهادته أصدق شهادة وأعدلها . فإنها شهادة بعلم تام محيط بالمشهود به . فيكون الشاهد به أعدل الشهداء وأصدقهم .
وهو سبحانه يذكر علمه عند شهادته ، وقدرته وملكه عند مجازاته ، وحكمته عند خلقه وأمره ، ورحمته عند ذكر إرسال رسله ، وحلمه عند ذكر ذنوب عباده ومعاصيهم ، وسمعه عند دعائه ومسألته وعزته ، وعلمه عند قضائه وقدرته .
فتأمل ورود أسمائه الحسنى في كتابه وارتباطها بالخلق والأمر والثواب والعقاب .
فصل
ومن هذا قوله تعالى:{ ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} [ الرعد:43] .
فاستشهد على رسالته بشهادة الله له . ولا بد أن تعلم هذه الشهادة ، وتقوم بها الحجة على المكذبين له .
وكذلك قوله:{ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم} [ الأنعام:19] .
وكذلك قوله:{ لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا} [ النساء:166] .
وكذلك قوله:{ يس * والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين *على صراط مستقيم} [ يس:1 . 4] .
وقوله:{ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين} [ البقرة:252] .
وقوله:{ والله يعلم أنك لرسوله} [ المنافقون:1] ، وقوله:{ محمد رسول الله} [ الفتح:29] .
فهذا كله شهادة منه لرسوله صلى الله عليه وسلم . قد أظهرها وبينها ، وبين صحتها غاية البيان ، بحيث قطع العذر بينه وبين عباده وأقام الحجة عليهم .
فكونه سبحانه شاهدا لرسوله صلى الله عليه وسلم معلوم بسائر أنواع الأدلة ، عقليها ، ونقليها ، وفطريها ، وضروريها ، ونظريها .
ومن نظر في ذلك وتأمله علم أن الله سبحانه شهد لرسوله صلى الله عليه وسلم أصدق الشهادة وأعدلها وأظهرها ، وصدقه بسائر أنواع التصديق ، بقوله الذي أقام البراهين على صدقه فيه ، وبفعله وإقراره ، وبما فطر عليه عباده ، من الإقرار بكماله ، وتنزيهه عن القبائح ، وعما لا يليق به . وفي كل وقت يحدث من الآيات الدالة على صدق رسوله ما يقيم به الحجة ، ويزيل به العذر ، ويحكم له ولأتباعه بما وعدهم به من العز والنجاة والظفر والتأييد . ويحكم على أعدائه ومكذبيه بما توعدهم به من الخزي والنكال ، والعقوبات المعجلة ، الدالة على تحقيق العقوبات المؤجلة{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا} [ الفتح:28] فيظهره ظهورين ظهورا بالحجة والبيان والدلالة ، وظهورا بالنظر والغلبة والتأييد ، حتى يظهره على مخالفيه ويكون منصورا .
وقوله:{ لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا} [ النساء:166] فما فيه من الخبر عن علم الله الذي لا يعلمه غيره من أعظم الشهادة بأنه هو الذي أنزله ، كما قال في الآية الأخرى:{ أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون} [ هود:13 . 14] .
وليس المراد مجرد الإخبار بأنه أنزله ، وهو معلوم له ، كما يعلم سائر الأشياء . فإن كل شيء معلوم له سبحانه:من حق وباطل وإنما المعنى:إنزاله مشتملا على علمه . فنزوله مشتملا على علمه هو آية كونه من عنده ، وأنه حق وصدق .
ونظير هذا قوله:{ قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض} [ الفرقان:6] ذكر ذلك سبحانه تكذيبا وردا على من قال:افتراه .
فصل
ومن شهادته أيضا:ما أودعه في قلوب عباده:من التصديق الجازم ، واليقين الثابت ، والطمأنينة بكلامه ووحيه .
فإن العادة تحيل حصول ذلك بما هو من أعظم الكذب والافتراء على رب العالمين ، والإخبار عنه بخلاف ما هو عليه من أسمائه وصفاته ، بل ذلك يوقع أعظم الريب والشك ، وتدفعه الفطر والعقول السليمة ، كما تدفع الفطر التي فطر عليها الحيوان الأغذية الخبيثة الضارة ، التي لا تغذي ، كالأبوال والأنتان . فإن الله سبحانه فطر القلوب على قبول الحق ، والانقياد له ، والطمأنينة به والسكون إليه ، ومحبته . وفطرها على بغض الكذب والباطل ، والنفور عنه ، والريبة به . وعدم السكون إليه . ولو بقيت الفطر على حالها لما آثرت على الحق سواه . ولما سكنت إلا إليه . ولا اطمأنت إلا به ، ولا أحبت غيره . ولهذا ندب الله عز وجل عباده إلى تدبر القرآن . فإن كل من تدبره أوجب له تدبره علما ضروريا ويقينا جازما أنه حق وصدق ، بل أحق كل حق ، وأصدق كل صدق ، وأن الذي جاء به أصدق خلق الله ، وأبرهم ، وأكملهم علما وعملا ومعرفة ، كما قال تعالى:
{ أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [ النساء:82] وقال تعالى:{ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [ محمد:24] فلو رفعت الأقفال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن ، واستنارت فيها مصابيح الإيمان ، وعلمت علما ضروريا يكون عندها كسائر الأمور الوجدانية:من الفرح والألم ، والحب والخوف أنه من عند الله تكلم به حقا ، وبلغه رسوله جبريل عنه إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
فهذا الشاهد في القلب من أعظم الشواهد . وبه احتج هرقل على أبي سفيان حيث قال له:( فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ فقال:لا . فقال له:وكذلك الإيمان ، إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد ) .
وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى في قوله:{ بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} [ العنكبوت:49] ، وقوله:{ ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق} [ سبأ:6] ، وقوله:{ وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به} [ الحج:54] ، وقوله:{ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب} [ الرعد:27] .
يعني أن الآية التي يقترحونها لا توجب هداية ، بل الله هو الذي يهدي ويضل .
ثم نبههم على أعظم آية وأجلها:وهي طمأنينة قلوب المؤمنين بذكره الذي أنزله . فقال:{ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} [ الرعد:28] أي بكتابه وكلامه ،{ ألا بذكره تطمئن القلوب} فطمأنينة القلوب الصحيحة ، والفطر السليمة به ، وسكونها إليه ، من أعظم الآيات ، إذ يستحيل في العادة أن تطمئن القلوب وتسكن إلى الكذب والافتراء والباطل .
فإن قيل:فلم لم يذكر الله سبحانه شهادة رسله مع الملائكة . فقال:شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة والرسل ، وهم أعظم شهادة من أولي العلم .
قيل في ذلك عدة فوائد:
أحدها:أن أولي العلم أعم من الرسل والأنبياء . فيدخلون هم وأتباعهم .
وثانيها:أن في ذكر أولي العلم في هذه الشهادة ، وتعليقها بهم ما يدل على أنها من موجبات العلم ومقتضايته ، وأن من كان من أولي العلم ، فإنه يشهد بهذه الشهادة ، كما يقال:إذا طلع الهلال واتضح:كل من كان من أهل النظر يراه . وإذا فاحت رائحة ظاهرة فكل من كان من أهل الشم يشم هذه الرائحة . قال تعالى:{ وبرزت الجحيم لمن يرى} [ النازعات:36] كل من له رؤية يراها حينئذ عيانا .
ففي هذا بيان أن من لم يشهد له الله سبحانه بهذه الشهادة ، فهو من أعظم الجهال وإن علم من أمور الدنيا ما لم يعلمه غيره . فهو من أولي الجهل ، لا من أولي العلم .
وقد بينا أنه لم يقم بهذه الشهادة ويؤديها على وجهها إلا أتباع الرسل ، أهل الإثبات . فهم أولو العلم ، وسائر من عداهم أولو الجهل ، وإن وسعوا القول وأكثروا الجدال .
ومنها:الشهادة من الله سبحانه لأهل هذه الشهادة:أنهم أولو العلم فشهادته لهم أعدل وأصدق من شهادة الجهمية والمعطلة ، والفرعونية لهم:بأنهم جهال ، وأنهم حشوية ، وأنهم مشبهة ، وأنهم مجسمة ، ونوابت ونواصب .
فكفاهم شهادة أصدق الصادقين لهم بأنهم من أولي العلم ، إذ شهدوا له بحقيقة ما شهد به لنفسه ، من غير تحريف ولا تعطيل . وأثبتوا له حقيقة هذه الشهادة بكل مضمونها . وخصومهم نفوا عنه حقائقها ، وأثبتوا له ألفاظها ومجازاتها .
فصل
وفي ضمن هذه الشهادة الإلهية:الثناء على أهل العلم الشاهدين بها وتعديلهم .
فإنه سبحانه قرن شهادتهم بشهادته ، وشهادة ملائكته ، واستشهد بهم جل وعلا على أجل مشهود به ، وجعلهم حجة على من أنكر هذه الشهادة ، كما يحتج بالبينة على من أنكر الحق ، فالحجة قامت بالرسل على الخلق ، وهؤلاء نواب الرسل ، وخلفاؤهم في إقامة حجج الله على العباد .
فصل
وقد فسرت شهادة أولي العلم:بالإقرار . وفسرت بالتبيين والإظهار .
والصحيح:أنها تتضمن الأمرين فشهادتهم إقرار وإظهار وإعلام ، وهم شهداء لله على الناس يوم القيامة . قال الله تعالى:{ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} [ البقرة:142] وقال تعالى:{ هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس} [ الحج:78] فأخبر أنه جعلهم عدولا خيارا ، ونوه بذكرهم قبل أن يوجدهم ، لما سبق في علمه من اتخاذه لهم شهداء يشهدون على الأمم يوم القيامة . فمن لم يقم بهذه الشهادة علما وعملا ومعرفة ، وإقرارا ودعوة ، وتعليما وإرشادا ، فليس من شهداء الله . والله المستعان .