قال ابن عباس رضي الله عنها:نهاه أن يشتبه بصاحب الحوت ، حيث لم يصبر صبر أولى العزم .
وهاهنا سؤال نافع ، وهو أن يقال:العامل في الظرف ، وهو قوله:{ إذ نادى} لا يمكن أن يكون المنهى عنه ، إذ يصير المعنى:لا تكن مثله في ندائه . وقد أثنى الله سبحانه عليه في هذا النداء فأخبر أنه نجاه به . فقال:{ وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين} [ الأنبياء:87 . 88] .
وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«دعوة أخي ذي النون ، إذ دعا بها في بطن الحوت:ما دعا بها مكروب إلا فرج الله عنه:لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين » .
فلا يمكن أن ينهى عن التشبه به في هذه الدعوة ، وهى النداء الذي نادى به ربه ، وإنما نهى عن التشبه به في السبب الذي أفضى به إلى هذه المناداة ، وهى مغاضبته التي أفضت به إلى حبسه في بطن الحوت ، وشدة ذلك عليه حتى نادى ربه وهو مكظوم . والكظيم والكاظم الذي قد امتلأ غيظا وغضبا ، وهما وحزنا ، وكظم عليه فلم يخرجه .
فإن قيل:وعلى ذلك فما العامل في الظرف .
قيل:ما في «صاحب الحوت » من معنى الفعل .
فإن قيل:فالسؤال بعد قائم ، فإنه إذا قيد المنهى بقيد أو زمن كان داخلا في حيز النهي فإن كان المعنى:لا تكن مثل صاحب الحوت في هذه الحال ، أو هذا الوقت .
كان نهيا عن تلك الحالة .
قيل:لما كان نداؤه مسببا عن كونه صاحب الحوت ، فنهى أن يشبه به في الحال التي أفضت به إلى صحبته الحوت وألجأته إلى النداء ، وهو ضعف العزيمة وعدم الصبر لحكمه تعالى ، ولم يقل تعالى:ولا تكن كصاحب الحوت إذ ذهب مغاضبا فالتقمه الحوت ، فنادى ، بل طوى القصة واختصرها . وأحال بها على ذكرها في الموضع الآخر ، واكتفي بغايتها وما انتهت إليه .
فان قيل:فما منعك بتعويض الظرف بنفس الفعل المنهى عنه ؟ أي لا تكن مثله في ندائه وهو ممتلئ غيظا وهما وغما ؟ بل يكون نداؤك نداء راض بما قضى ربه عليه ، قد تلقاه بالرضا والتسليم وسعة الصدر ، لا نداء كظيم .
قيل:هذا المعنى . وان كان صحيحا ، فلم يقع عن التشبه به في مجرده .
وإنما نهى عن التشبه به في الحال التي حملته على ذهابه مغاضبا ، حتى سجن في بطن الحوت .
ويدل عليه قوله تعالى:{ فاصبر لحكم ربك} ثم قال:{ ولا تكن كصاحب الحوت} أي في ضعف صبره لحكم ربه . فان الحالة التي نهى عنها هي ضد الحالة التي أمر بها .
فإن قيل:فما منعك أن تصبر حيث أمر بالصبر لحكمه الكوني القدري الذي يقدره عليه ، ولا تكن كصاحب الحوت ، حيث لم يصبر عليه ، بل نادى وهو كظيم لكشفه ، فلم يصبر على احتماله والسكون تحته .
قيل:منع من ذلك:أن الله سبحانه أثنى على يونس عليه السلام وغيره من أنبيائه بسؤالهم إياه كشف ما بهم من الضر ، وقد أثنى عليه سبحانه بذلك في قوله:{ وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين} [ الأنبياء:87 . 88] فكيف ينهى عن التشبه به فيما يثنى عليه ويمدحه به ؟ وكذلك أثنى على أيوب عليه السلام بقوله:{ مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} [ الأنبياء:83] وعلى يعقوب عليه السلام بقوله:{ إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله} [ يوسف:86] وعلى موسى عليه السلام بقوله:{ رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} [ القصص:24] وقد شكا إليه خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم بقوله:«اللهم أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي – الحديث » .
فالشكوى إليه سبحانه لا تنافي الصبر الجميل ، بل إعراض عبده عن الشكوى إلى غيره جملة ، وجعل الشكوى إليه وحده:هو الصبر والله تعالى يبتلى عبده ليسمع شكواه وتضرعه ودعاؤه .
وقد ذم سبحانه من لم يتضرع إليه . ولم يستكن له وقت البلاء كما قال تعالى:{ ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} [ المؤمنون:76] .
والعبد أضعف من أن يتجلد على ربه والرب تعالى لم يرد من عبده أن يتجلد عليه ، بل أراد منه أن يستكين له ويتضرع إليه ، وهو تعالى يمقت من يشكوه إلى خلقه ، ويحب من يشكو ما به إليه .
وقيل لبعضهم:كيف تشتكي إليه ما ليس يخفى عليه ؟ فقال:ربي يرضى ذل العبد إليه .
والمقصود:أن سبحانه أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصبر صبر أولي العزم الذين صبروا لحكمه اختيارا . وهذا أكمل الصبر ، ولهذا دارت قصة الشفاعة يوم القيامة على هؤلاء ، حتى ردوها إلى أفضلهم وخيرهم ، وأصبرهم لحكم الله ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .