ثم ساق- سبحانه- ما يدل على كمال قدرته، وسعة رحمته بعباده، ومجازاتهم على أعمالهم يوم القيامة
قال أبو حيان:قوله- تعالى- وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ.. لما ذكر- سبحانه- القرآن وأنه هاد إلى الطريقة المستقيمة، ذكر ما أنعم به مما لم يمكن الانتفاع إلا به، وما دل على توحيده من عجائب العالم العلوي. وأيضا لما ذكر عجلة الإنسان، وانتقاله من حال إلى حال ذكر أن كل هذا العالم كذلك في الانتقال لا يثبت على حال، فنور عقب ظلمة وبالعكس، وازدياد نور وانتقاص آخر.
والمراد بالآيتين هنا:العلامتان الواضحتان، الدالتان على قدرة الله- تعالى- ووحدانيته.
وقوله:فَمَحَوْنا من المحو بمعنى إزالة أثر الشيء، يقال:محا فلان الشيء محوا- من باب قتل- إذا أزال أثره.
وللعلماء في تفسير هذه الآية اتجاهات:أما الاتجاه الأول فيرى أصحابه، أن المراد بالآيتين:نفس الليل والنهار، وأن الكلام ليس فيه حذف.
فيكون المعنى:وجعلنا الليل والنهار- بهيئاتهما الثابتة، وتعاقبهما الدائم، واختلافهما طولا وقصرا- آيتين كونيتين كبيرتين، دالتين على أن لهما صانعا قادرا، حكيما، هو الله رب العالمين.
وقوله- سبحانه- فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أى:فجعلنا الآية التي هي الليل. ممحوة الضوء، مظلمة الهيئة، مختفية فيها الأشياء، ساكنة فيها الحركات.
وقوله- تعالى-:وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً أى:وجعلنا الآية التي هي النهار مضيئة، تبصر فيها الأشياء وترى بوضوح وجلاء.
وعلى هذا الاتجاه، تكون إضافة الآية إلى الليل والنهار من إضافة الشيء إلى نفسه، مع اختلاف اللفظ، تنزيلا لاختلاف اللفظ منزلة الاختلاف في المعنى، كما في قوله- تعالى- شَهْرُ رَمَضانَ فرمضان هو نفس الشهر.
وأما الاتجاه الثاني فيرى أصحابه أن الكلام على حذف مضاف، وأن المراد بالآيتين:
الشمس والقمر، فيكون المعنى:وجعلنا نيرى الليل والنهار- وهما الشمس والقمر- آيتين دالتين على قدرة الله- تعالى- ووحدانيته، فمحونا آية الليل- وهي القمر-، بأن أزلنا عنه شعاعه وضياءه، ولم نجعله كالشمس في ذلك، وجعلنا آية النهار- وهي الشمس- مبصرة، أى:ذات شعاع وضياء يبصر في ضوئها الشيء على حقيقته.
وقد ذكر صاحب الكشاف هذين الوجهين دون أن يرجح بينهما فقال:قوله- تعالى-:
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ.. فيه وجهان:أحدهما:أن يراد أن الليل والنهار آيتان في أنفسهما، فتكون الإضافة في آية الليل وآية النهار للتبيين، كإضافة العدد إلى المعدود، أى:
فمحونا الآية التي هي الليل، وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة.
والثاني:أن يراد:وجعلنا نيرى الليل والنار آيتين، يريد الشمس والقمر ...
أى:فمحونا آية الليل التي هي القمر، حيث لم نخلق له شعاعا كشعاع الشمس تبصر به الأشياء، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء .
والذي نراه:أن الاتجاه الأول أقرب إلى الصواب، لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة ولأنه لا يحتاج إلى تقدير، وما كان كذلك أولى مما يحتاج إلى تقدير، ولأن الليل والنهار هما بذاتهما من أظهر العلامات والأدلة على قدرة الله- تعالى- ووحدانيته.
وهناك عشرات الآيات القرآنية في هذا المعنى، ومن ذلك قوله- تعالى- وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ .
وقوله- تعالى-:وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ... .
وقال- تعالى-:إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِإلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي أوردها الله- تعالى- في هذا المعنى.
وقوله- سبحانه-:لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ بيان لمظهر من مظاهر حكمته- تعالى- ورحمته بعباده.
والجملة الكريمة متعلقة بما قبلها، وهو قوله- سبحانه-:وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً أى:جعلنا النهار مضيئا، لتطلبوا فيه ما تحتاجونه من أمور معاشكم، ومن الأرزاق التي قسمها الله بينكم.
قال الآلوسى ما ملخصه:وفي التعبير عن الرزق بالفضل، وعن الكسب بالابتغاء:دلالة على أنه ليس للعبد في تحصيل الرزق تأثير سوى الطلب، وإنما الإعطاء من الله- تعالى-
بطريق التفضل.. .
وشبيه بهذه الجملة الكريمة قوله- تعالى-:وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ، لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
فقوله- تعالى-:لِتَسْكُنُوا فِيهِ يعود إلى الليل. وقوله- تعالى-:وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يعود على النهار.
ثم بين- سبحانه- حكمة أخرى ونعمة أخرى لجعله الليل والنهار على هذه الهيئة فقال:
وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ.
أى:وجعلنا الليل والنهار على هذه الصفة من التعاقب والاختلاف في الطول والقصر لتعرفوا عن طريق ذلك عدد الأيام والشهور والأعوام، التي لا تستغنون عن معرفتها في شئون حياتكم، ولتعرفوا- أيضا- الحساب المتعلق بها في معاملاتكم، وبيعكم وشرائكم، وأخذكم وعطائكم، وصلاتكم، وصيامكم، وزكاتكم، وحجكم، وأعيادكم.. وغير ذلك مما تتوقف معرفته على تقلب الليل والنهار. وولوج أحدهما في الآخر.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله:وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا.
والتفصيل:من الفصل بمعنى القطع. والمراد به هنا:الإبانة التامة للشيء بحيث يظهر ظهورا لا خفاء معه ولا التباس.
ولفظ كُلَّ منصوب على الاشتغال بفعل يفسره ما بعده.
أى:وفصلنا كل شيء تحتاجون إليه في أمور دينكم ودنياكم، تفصيلا، واضحا جليا، لا خفاء معه ولا التباس، فقد أقمنا هذا الكون على التدبير المحكم، وعلى الصنع المتقن، وليس على المصادفات التي لا تخضع لنظام أو ترتيب.