/م9
الآية تقول أوّلاً: ( وجعلنا الليل والنهار آيتين ) ثمّ: ( فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مُبصرة ) .وَلنا في ذلك هدفان: الأوّل: ( لتبتغوا فضلا مِن ربّكم ) حيثُ تنطلقون نهاراً في الكسب والعمل والمعاش مستثمرين العطايا الإِلهية ،وتنعمون ليلا بالراحة والهدوء والاستقرار .والهدف الثّاني فهو: ( ولتعلموا عدد السنين والحساب ) لكي لا تبقى شبهة لأحد ( وكل شيء فصّلناه تفصيلا ) .
بين المفسّرين كلام كثير حول المقصود مِن «آية الليل » و«آية النهار » وفيما إِذا كانَ ذلك كناية عن نفس الليل و النهار ،أم أنَّ المقصود مِن «آية الليل » القمر ،ومن «آية النهار » الشمس{[2181]} .
ولكن التدقيق في الآية يكشف عن رجاحة التّفسير الأوّل ،خصوصاً وأنَّ المقصود مِن قوله تعالى: ( وَجعلنا الليل والنهار آيتين ) هو أنّ كل واحد مِنهما علامة على إِثبات وجود اللّه ،أمّا محو آية الليل فهو تمزيق ظلمة الليل وحجب الظلمة فيه بواسطة نور النهار ،الذي يكشف ما كان مستوراً بظلمة الليل .
وإِذا كانت آيات أُخرى في القرآن [ آية ( 5 ) مِن سورة يونس] تفيد أنّ الغاية من خلق الشمس والقمر هو تنظيم الحساب إلى سنين وأشهر ،فليس ثمّة تنافي بين الآيتين ،إِذ مِن الممكن أن تنتظم حياة الإِنسان وحسابهُ على أساس الليل والنهار ،وعلى أساس الشمس والقمر مِن دون أي تناف بين الاثنين .
في نهج البلاغة نقرأ للإِمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب( عليه السلام ) ،قوله: «وجعل شمسها آية مُبصره لنهارها ،وقمرها آية ممحوه مِن ليلها ،وأجراهما في مَناقل مجراهما ،وقدّر سيرهما في مدارج درجهما ،ليميز بين الليل والنهار بهما ،وليعلم عدد السنين والحساب بمقاديرهما »{[2182]} .
إِنّ كلام الإِمام هنا لا يُنافي التّفسير الأوّل ،لأنَّ حساب السنين يمكن أن يكون على أساس الأيّام والليالي ،كما يمكن أن يتم ذلك على أساس الشمس والقمر .
بحوث
أوّلاً: هل الإِنسان عجول ذاتاً ؟
إِنَّ الإِنسان لا يوصف في القرآن بوصف «العجول » وَحسب ،وإِنّما هناك أوصاف أُخرى أطلقها على الإِنسان مثل «ظلوم » و«جهول » و«كفور » و«هلوع » و«مغرور » .
ولكن السؤال هنا ،هو أنَّ هذه الأوصاف تتعارض مع التعليمات القرآنية التي تتحدّث عن الفطرة النظيفة الطاهرة للإِنسان ،فكيف إِذن نوائم بين الحالتين ؟
بعبارة أُخرى: إِنّ الإِنسان مِن وجهة نظر الإِسلام هو أفضل الموجودات وأكرمها حتى أنّه استحق مقام الخلافة عن اللّه ،في الأرض ،وهو مُعَلِّم الملائكة وأفضل منها ،فكيفإِذنيتسق هذا الطرح مع الأوصاف السيئة الآنفة التي نقرؤها عن الإِنسان في القرآن ؟
إِنَّ الإِجابة على هذا السؤال يمكن أن نختصرها بجملة واحدة ،وهي أنَّ شخصية الإِنسان هي كما تقوم آنفاً من السمو والرفعة ،ولكن بشرط أن تتم تربيته وتكون رعايته مِن قبل القادة الرّبانيين ،وإِلاّ ففي غير هذه الصورة ،فسيتسافل نحو أسوأ الأحوال ،ويغرق في الهوى والشهوات ،ويخسر القابليات العظيمة الموجودة فيه بالقوة لتظهر بدلا عنها الجوانب السلبية .
لذلك إِذا تحقق الشرط السابق ( تربية الإِنسان على يد القادة الإِلهيين ) فإِنَّ الجوانب الإِيجابية في الإِنسان هي التي تظهر ،وهي التي تطبعه بطابعها وبعكس ذلك تظهر الصفات السلبية ،لذلك نقرأ في الآيات 1924 مِن سورة المعارج قوله تعالى: ( إِنّ الإِنسان خُلق هلوعاً إِذا مسَّهُ الشر جزوعاً وإِذا مسَّهُ الخير منوعاً إِلاّ المصلين الذين همُ على صلاتهم دائمون ) .ويمكن للقاريء أن يعود إلى تفسير الآية ( 12 ) مِن سورة يونس لأجل المزيد مِن التفاصيل حول الموضوع .
ثانياً: أضرار العجلة
إنَّ تعلق الإِنسان واندفاعه نحو موضوع معين ،والتفكير السطحي المحدود ،والهوى والإِضطراب ،وحسن الظن أكثر من الحد الطبيعي إِزاء أمر ما ،كُلّها عوامل للعجلة في الأعمال .ثمّ إِنَّ الإقتصار على بحث المقدمات بشكل سطحي سريع ومرتجل لا يكفي في التوصل إلى حقيقة الأمر ،وعادة تؤدي العجلة والتسرع في الأعمال إلى الخسران والندامة !
وقد قرأنا في الآيات أعلاه أنَّ عجلة الإِنسان تقوده إلى أن يطلب الشر لِنفسه ويسعى إِليه ،بنفس الحالة والسرعة التي يطلب فيها الخير ويسعى إِليه !
إِنّنا لا نستطيع أن نحصي ما أصاب الإِنسان على طول التاريخ جرّاء استعجاله وتسرّعه ،وفي التجربة الحياتية الخاصّة لأي واحد مِنّا ثمّة ما يكفي لنتعلَّم دروس العجلة والتسرُّع مِن خلال النتائج المرّة التي جنيناها .
إِنَّ «التثبت » و«التأني » هي الصفات التي تقابل العجلة ،ففي حديث عن رسول اللّه نقرأ قوله( صلى الله عليه وآله وسلم ): «إِنّما أهلك الناس العجلة ،ولو أنَّ الناس تثبتوا لم يهلك أحد »{[2183]} .
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق نقرأ قوله( عليه السلام ): «مع التثبت تكون السلامة ،ومع العجلة تكون الندامة »{[2184]} .
وعن رسول اللّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) قوله: «إِنَّ الأناة مِن اللّه والعجلة مِن الشيطان »{[2185]} .
طبعاً هناك باب في الرّوايات الإِسلامية بعنوان «تعجيل فعل الخير » ففي حديث عن رسول اللّه نقرأ قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ): «إِنّ اللّه يحب مِن الخير ما يعجل »{[2186]} .
إِنَّ الرّوايات في هذا المجال كثيرة ،والمقصود مِنها هي السرعة في مقابل الإِهمال والتأخير غير الموَّجَّه ،والإِتكاء إلى الأعذار والتسويف باليوم وغداً ،التي غالباً ما تؤدي إلى ظهور المشاكل في الأعمال ،وشاهد هذا الكلام هو الحديث الوارد عن الإِمام الصادق( عليه السلام ): «مَن همَّ بشيء مِن الخير فليعجله فإِنَّ كل شيء فيه تأخير فإِنَّ للشيطان فيه نظرة »{[2187]} .
لذلك نقول: نعم للجدية والسرعة في الأعمال ،ولكن لا ..للعجلة والتسرُّع .
وبعبارة أُخرى: إِنَّ العجلة المذمومة هي التي تكون أثناء البحث والدراسة لمعرفة جوانب العمل المختلفة ،أمّا السرعة والعجلة الممدوحتان فهما اللتان يكونان بعد اتخاذ قرار الشروع بالعمل ،والتصميم على التنفيذ ،لذلك نقرأ في الرّوايات «سارعوا في عمل الخير » أي بعد أن يثبت أن هذا العمل خير فلا مجال للتأخير والتسويف .
ثالثاً: دور العدد والحساب في حياة الإِنسان:
كل عالم الوجود يدور حول محور العدد والحساب ،ولا نظام في هذا العالم بدون حساب ،وطبيعي أنَّ الإِنسان الذي هو جزء مِن هذه المجموعة لا يستطيع العيش مِن دون حساب وكتاب .
لهذا السبب تعتبر الآيات القرآنية وجود الشمس والقمر أو الليل والنهار واحدة مِن نعم اللّه تعالى ،لأنّها الأساس في تنظيم الحساب في حياة الإِنسان .إِنَّ شيوع الفوضى وفقدان الحياة للاتساق والنظم يؤدي إلى دمار الحياة وفنائها .والظريف أنَّ الآية تتحدّث عن فائدتين لنعمة الليل والنهار: الأُولى: ابتغاء فضل اللّه والتي تعني التكُّسب والعمل المفيد المثمر .والثّانية: معرفة عدد السنين والحساب .
وقد يكون الهدف مِن ذكر الاثنين إلى جنب بعضهما البعض يعود إلى أنَّ ( ابتغاء فضل اللّه ) لا يتم بدون الاستفادة مِن ( الحساب والكتاب ) وقد لا يكون هذا المعنى واضحاً في العصور الماضية ،أمّا في عصرنا فهو واضح كالشمس .
إِنَّ عالمنا اليوم ،هو عالم الأرقام والأعداد والإِحصاء ؛فإلى جانب كل مُؤسسة ومنظمة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو عسكرية أو عملية أو ثقافية ،ثمّة مؤسسة إِحصائية .
وَهكذا نستفيد من الإِشارة القرآنية أنّ القرآن لا يبلى بالزمان ،بل كُلّما مرَّ عليه الزمان تجددت معانيه وتجلّت آفاقه{[2188]} .