هذا مقام القرآن ، وهذا هو الإنسان ، وقد انتقل سبحانه من الإنسان إلى الكون وفيه آيات الوحدانية ، وبرهان الألوهية ، فقال عز من قائل:
{ وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا ( 12 )} .
ابتدأ سبحانه من الكون بما يمس الإنسان من أوقات فذكر الليل والنهار ، وقال تعالى:{ وجعلنا الليل والنهار آيتين} ، أي هما في ذاتهما آيتان ، إذ يقبلان بأمر الله ويذهبان ، وإذا كانا يرمزان إلى دوران الشمس حول الأرض ، وأن القمر يستمد نوره من انعكاس ضوء الشمس على الأرض ، كما قال تعالى:{ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل . . .( 5 )} [ يونس] فإن يسير بقدرة الله تعالى وإراداته ، وكل شيء عنده بمقدار ، ثم هما يقصران ويطولان ، فإذا قصر أحدهما طال الآخر ، فإذا طال الليل في الشتاء قصر النهار ، والعكس بالعكس .
هذا على أن الليل والنهار ذاتهما آيتان وترمزان إلى آية كونية هي دوران الأرض حول الشمس ، وانعكاس ضوء الشمس على الأرض فتجعله منيرا من غير ضياء كالشمس .
وقد يراد بآيتي الليل ما يظهر بالحس في كل منهما ، فالشمس تكون بالنهار ، وهي آية ، والقمر يكون بالليل ، وهو آية ، والقمر قدره الله تعالى منازل .
ومعنى محو آية الليل ما قاله الزمخشري:{ فمحونا آية الليل} أي جعلنا الليل محو الضوء مطموسه مظلما لا يستبين فيه شيء ، كما لا يستبان ما في اللوح الممحو .
وقوله تعالى:{ فمحونا آية الليل} في الكلام مجاز على تخريح الزمخشري مؤاده أنه شبه الليل الممحو نوره بالكتاب المطموس كتابته لعدم الوضوح والاستبانة فيهما .
وقوله تعالى:{ وجعلنا آية النهار مبصرة} ، أي يبصر الناس فيها ، فيكون في الكلام مجاز أيضا فأسند الإبصار إلى الآية باعتبارها منها الإبصار ، وذلك مجاز في الاشتقاقات ، فأطلق اسم على المسبب ، وهو ما يكون فيه من استبانة .
{ لتبتغوا فضلا من ربكم} ، أي لتطلبوا فيه أسباب رزقكم ، ولتقيموا الصناعات ، وتسيروا في الأرض وتفلحوا الأرض فتمتلئ بالنبات ، والغرس ، وتكون منافع هذه الدنيا إذ تتولون أسبابا وفضلا من الله ، ولتعلموا عدد السنين والحساب ، وذلك بتجدد الأيام ، فيعرف اليوم ، ويعرف الشهر ، ويعلم عدد السنين وما يجرى في حساب الناس .
فبتجدد الليل والنهار يكون السكون وتكون الحركة ، وطلب المعاش ، والسعي في الأرض ، وذلك كله يدل على الفاعل المختار ووحدانيته ، قال تعالى:{ تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ( 61 ) وهو الذي جعل الليل والنهار خلقة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ( 62 )} [ الفرقان] . وقال تعالى:{ خلق السموات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار ( 5 )} [ الزمر] .
بعد أن بين الله طبيعة الإنسان ، وأشار إلى ما يحيط به أخذ يشير سبحانه إلى الحساب .