بعد ذلك ذكر الله سبحانه وتعالى وصفا للطبيعة الإنسانية سواء كانت كافرة أم مؤمنة ، فقال:{ ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا} .
كتبت العين مجردة من الواو ، أي الواو محذوفة في الكتابة تبعا لحذفها في النطق بسبب التقاء الساكنين ، فحذفت في الكتابة ، وهذا ينبئ عن حقيقة مقررة ، وهو أن القرآن الاعتماد فيه على القراءة ، وعلى حفظه في الصدور ، لا في السطور وذلك هو الذي حفظه إلى يومنا وحتى يوم القيامة .
وقوله تعالى:{ دعاءه بالخير} ، أي أن دعاء الشر من الإنسان كدعاء الخير ، لا يتدبر فيه ولا يتريث ، ولا يضبط نفسه بالتروي والتدبر ، كما يدعو بخير واضح الخيرية نتيجته حسنة ، وثمراته بادية ، وقد وصف الله تلك الحال بأنها من طبيعة الإنسان فقال:{ وكان الإنسان عجولا} .
ونريد أن نقف قليلا عند تفسير معنى "يدعو"ومعنى الشر والخير ، أما معنى الشر فهو كل أمر لا نفع فيه ويسوء ، ويؤدى إلى فساد وضرر ، كالشرك ، والعذاب ، والإيذاء ، والفتنة في الدين ،تعجل كل ما هو مؤذ لنفسه أو لغيره ، والخير كل ما فيه نفع عام أو خاص أو رفع ضرر ، أو ما هو حق في ذاته كالتوحيد ، والإيمان بالله ورسوله والملائكة واليوم الآخر ، هذا هو معنى الشر والخير ، أو هذا نظر بين يقرب معنى الخير والشر ، والشر والخير الحكم الديني والخلقي فيهما إلى النية المحتسبة ، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر المعنى:"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته لله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته لما هاجر إليه"{[1413]} .
ونتكلم في معنى يدعو ، أهى من الدعاء ، أم من الدعوة ، فإذا كانت من الدعاء تكون بمعنى دعاء الله بالشر كدعائه بالخير لا يتروى فيه ؛ ففي الخير المسارعة فيه خير ؛ لأنها مبادرة إليه ، والمسارعة إليه مطلوبة ، لقوله تعالى{ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض . . .( 133 )} [ آل عمران] ، وأما المسارعة بالدعاء إلى الشر فذلك ممقوت ، كالدعوة على النفس بالهلاك عند الغضب ، وكدعاء إنزال العذاب ، كقول الله على لسان المشركين{. . .فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ( 70 )} [ الأعراف] ، وقد قال تعالى لائما على ذلك ،{ ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون ( 11 )} [ يونس] .
هذا إذا كان يدعو من الدعاء ، أما إذا قلنا إنها من الدعوة وتجئ بمعنى الدعاء فالمعنى أن الإنسان يدعو نفسه وغيره متلبسا بالشر ، كدعوته إلى الخير ، وإذا كانت الدعوة إلى الخير محمودة العاقبة في ذاتها لأنها خير مآلا ، ولأنها مرئية في ذاتها فالدعوة المتلبسة بالشر تحتاج إلى تعرف عواقبها ونهايتها ، والتروي والتدبر في دواعيها ، وإذا فكر وتدبر لا يفعل إلا ما يؤدي إلى النفع ، ولكنه لا يفعل ، ولذلك قال تعالى بعد ذلك:{ وكان الإنسان عدولا} وذلك كقوله تعالى:{ خلق الإنسان من عجل . . .( 37 )} [ الأنبياء] فهو في طبعه التعجل إلى الأمور ، والعاقل من يتأتى ويتدبر ويصبر ، ويدرس الأمور ، فإذا كانت العجلة من غرائزه ، فالإدراك يهذب هذه الغريزة ، ويجعلها متنافسة مع مواهبه ، وكذلك كل غريزة تشذب بغيرها من الغرائز ، فإذا كانت فيه الغريزة الجنسية ، فالعقل يجعلها في الحلال ، وإذا كانت غريزة العجلة ، فالعقل يضبطها بالصبر .