مخاطر الاستغراق في عالم الحس
وهذه حقيقةٌ إنسانيةٌ في التكوين الأولي للإنسان ،أو في الواقع العملي في وجوده ،وذلك لارتباطه بالجانب الحسي للحياة وتطلّعه إلى الصورة الظاهرة فيها ،ما يجعله ينحرف نحوها دون حساب وتقدير ،تماماً كما هو القفز من موقعٍ إلى آخر دون التدقيق في الهوّة التي تفصل بين الموقعين ،وتفرض عليه سلوك خط السلامة في طريق السير ،واكتشاف سبلٍ جديدةٍ ،مما يحتاج إلى وقتٍ طويلٍ ،أو إلى تأمّل عميق .وهكذا كان الإنسان يواجه دعوات الحق ،وأهداف الخير في رسالات الأنبياء الذين كانوا يطرحون للناس نظام الحياة المرتكز على الوحي الإلهي ،ويطلبون منهم الانسجام مع هذا الخط في أفكارهم وأقوالهم وأفعالهم وعلاقاتهم ،ويحذّرونهم من الانحراف عنه ،ويبشرونهم بالسعادة في الدنيا وبالجنة في الآخرة إذا أحسنوا الالتزام به ،وينذرونهم بالشقاء في الحياة وبالنار في الآخرة إذا أساؤوا السير على هداه .
ولكن الناس لا يدقّقون في فكر الدعوة ،ولا يتأمّلون في النتائج الإيجابية والسلبية في ما يتحرك به التبشير والإنذار ،ولا يتروّون في تحديد موقفهم من حركة الرسالة ودعوات الرسل ،بل ينطلقون مع السطح الظاهر للأشياء ،والنتائج المباشرة للواقع ،وتلحّ عليهم الدعوة إلى التفكير وعدم المبادرة إلى السرعة في الإنكار ،ويظلون مشدودين إلى أوضاعهم الحسية ،فيستعجلون العذاب الذي ينذرهم به الأنبياء ،ليتخلصوا من الإحراج ،أو ليتخففوا من الإلحاح ،أو ليسخروا منهم ،لأنهم لا يعتقدون بجدّية الموضوع ،فيطلبون أن ينزل الله بهم العذاب ،كما قد يطلبون في الحالات الطبيعية أن تنزل عليهم السعادة ويهطل عليهم الخير وتفيض عليهم النعمة .إنهم يستعجلون ذاك كما يستعجلون هذا ،لأنهم لا يفهمون معنى ارتباط المسببات بأسبابها ،وعلاقة النتائج بمقدماتها ،وأن لكل شيء أجلاً لا يعدوه ،وأن الله عندما يعد الناس بالخير أو يتوعدهم بالعذاب ،فإنه لا يستعجل الأمر قبل أوانه ،بل يؤخره إلى أجلٍ مسمّى وفقاً لما قدره للأشياء من أسبابٍ وآجال تبعاً لحكمته الثابتة التي لا تهتز ولا تتزلزل .ولو عرف الإنسان كيف يفكر ليعرف النتائج السلبية والإيجابية لخطواته العملية في الحياة ،لاستطاع أن يدرك الهول العظيم لما يلاقيه من العذاب الذي لو التقى به ،لودّ أن يكون بينه وبينه بعد المشرقين .
وهذا ما يمنعه من السير على الطريقة التي هي أقوم ،ومن الانفتاح على البشارة والابتعاد عن أجواء الإنذار .
شروط واقعية لتجنب السلبيات
{وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ} ويطلبه في واقع أمره ،تخلّصاً من حالات الترقب والانتظار والتفكير ،التي تربطه بالمستقبل الذي قد يأتي بعد وقت طويل ،وبذلك يقع في كثيرٍ من الخسائر والهزائم والمشاكل ،لأنه لم ينتظر الشروط الواقعية التي تنقذه منها أو من سلبيتها ،أو تبدّلها إلى حالات أفضل .{دُعَآءهُ بِالْخَيْرِ} كما يدعو بالخير في شوقٍ ولهفةٍ واستعجالٍ ليحصل على لذته ومنفعته في أقرب وقت .ولكن الإنسان لا يعي ما معنى استعجال العذاب الذي يدمّر مصيره ،ويحطّم كل معنى للحياة فيه ،ولذلك يظل سادراً في غيّه ،فيرى أنه لا يمثل الحقيقة لأنه اعتاد على أن يكون مقياسها السرعة في الوجود بشكلٍ مباشر .
بين العجلة ومنطق الواقع
{وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً} تلك هي طبيعته التي يتحرك من خلالها ،وهي الأساس للكثير من أخطائه وانحرافاته ومشاكله التي يتخبّط فيها ،ولكن ذلك لا يعني أنها الطبيعة الثابتة المتصلة بالتكوين الذاتي لوجوده ،بحيث يكون التخلص منها تخلّصاً من جزءٍ من ذاته ،بل هي الطبيعة المتحركة الناشئة من ارتباطه بعالم الحسّ في حركة حياته ،فيمكن لها أن تهتز وتتراجع إذا أخذ الإنسان بأسباب الفكر ،وتعامل مع الحياة بمنطق الواقع ،ودرسها من خلال سنن الله في الكون التي تفرض الانتظار سنة في بعض الأمور ،وعدة سنين في بعضٍ آخر ،كما قد تفرض الانتظار مدة الحياة في ما يأتي في نهايتها أو بعدها .
وعلى ضوء ذلك ،لا بد من المعاناة والصبر وبذل الجهد من أجل الحصول على الشخصية العاقلة المنفتحة المتأنّية في انتظارها للقضايا الملحة ،المتأمّلة في دراسة شروطها الواقعية ،على نهج الأمور الكونية الخاضعة لأكثر من مرحلةٍ سابقةٍ على الوجود ،في عملية الوجود الفعلي لظواهرها .