{أَعْتَدْنَا}: أعددنا
وهكذا استحقوا البشارة الروحية ،المنطلقة من جهدهم ومعاناتهم مما يكافىء به الله عباده المحسنين{أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} لأن الله لم يرد للإنسان أن يتجرد من غريزة حب الذات القائمة على أساس الأخذ والعطاء ،ولكنه أراد له أن لا يتجمّد في تفكيره بالثمن أو بالعوض عند حدود الدنيا في الجانب المادي منها ،بل يمتد إلى أبعد من ذلك في الجانب الروحي من قيم الحياة ،الذي يملأ قلبه بالرضا والطمأنينة والسرور ،ويلتفت إلى آفاق الآخرة ليحصل على نعيمها السابح في رضوان الله ،وهكذا أجمل الله لهم الأجر في البشارة ،فلم يفصل لهم طبيعته ،ولكنه أطلق لهم التصور في أن يعيشوا الشعور في دائرة حجمه ،فالله سيمنحهم الأجر الكبير الذي يمتد إلى نعيمه ورضوانه ورحمته التي وسعت السّموات والأرض .
أمّا الذين لا يؤمنون بالآخرة ،لأنهم لا يعيشون مسؤولية الإيمان ،فينطلقون في أجواء اللامبالاة إزاء قضية العقيدة أو مسألة الالتزام ،ولا يجدون مشكلةً في أيّ جانب فكريٍّ أو عمليٍّ ،ليناقشوه ويتحاوروا فيه ،ليلتزموه أو يرفضوه ،بل كل همِّهم ينحصر في إشباع جوع الحس وإرواء ظمأ الشهوة وتلبية حاجات الهوى ،وهذا ما جعلهم يبتعدون عن الإيمان بالله حتى فقدوه ،وعن الالتزام بالوحي حتى تمردوا عليه ،فأساؤوا إلى أنفسهم بما جلبوه لها من متاعب ومشاكل ،وما أبعدوه عنها من منافع ومكاسب ،وما أوقعوها فيه من مهالك ومزالق ،وأساؤوا إلى الناس لأنهم ظلموهم وأضلوهم في حياتهم وأثاروا في حياتهم أجواء الكفر والضلال والانحراف ،وحرّكوا فيها خطوات التمرّد والظلم والطغيان ،فهم مشدودون إلى الأرض لا يتطلعون لحظة إلى السماء ،ومرتبطون بالدنيا لا يفكرون بالآخرة ،وملتزمون بالمادة لا يعيشون قيم الروح .وهكذا ضلوّا وأضلّوا بعد أن قامت عليهم الحجة من الله ،من خلال ما أعطاهم من عقلٍ ،وما رزقهم من حواس ،وما وهبهم من وسائل الحركة ،وما أحاطهم به من أجواء العناية ،فلم يكفروا عن عجز ،ولم يضلوا عن جهل .
أما هؤلاء فلهم بشارةٌ من نوعٍ آخر{وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخرةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} لأن المقدمات تفرض نتائجها ،ولأن العمل يفرض الجزاء .وهذا هو جزاء الذين لا يعيشون مسؤولية العمل ،فينحرفون به إلى غير ما يريده الله للإنسان وللحياة .