الحساب يوم القيامة
لم يختلق الله تعالى الإنسان سدى ، ولم يخرج الحياة لتكون عبثا من غير حساب ، بل إن الله تعالى مسئولا عما يعمل ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، ومن فاته حظ الحياة الدنيا مظلوما ، فينال في الآخرة حظا موفورا ، ومن اكتسب الإثم وأحاطت به خطيئته ، فإن له جهنم ، إن صلاح الإنسان لا يكون إلا بالثواب والعقاب في الآخرة ، كذلك قدر الله تعالى ولذا كان الحساب ، وقال تعالى:
{ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يقلاه منشورا ( 13 )} .
الطائر هنا كناية أو مجاز عن العمل ، فالمعنى وكل إنسان ألزمناه عمله الذي عمله وطوقنا به عنقه ، بحيث لا يمكن الخلاص منه ، كما يطوق العنق بأي شيء لا يمكنه الفكاك ، بل يلازمه ملازمة الطوق للعنق ، وقد شبهتا ملازمة العمل للنفس حتى تنال جزاءها خيرا أو شرا بملازمة الطوق للعنق حلية أو قيدا .
هذا هو المعنى الإجمالي للآية الكريمة .
وفي التعبير عن العمل بالطائر إشارة إلى ما كان العرب من التشاؤم والتفاؤل ، فالله سبحانه وتعالى يبين أن العمل كهذا الذي كنتم تتخذونه للتشاؤم والتفاؤل ، ولكنه عمل هو خير لكم أو شر عليكم ، وعبر عنه بملازمته الأعناق ؛ لأن العنق هو الذي تكون به القلائد ، فكان ذلك ترشيحا للاستعارة ، ولنستعر توضيح هذا المعنى من شيخ المفسرين الطبري ، فهو يقول:إذ أعلمهم جل ثناؤه أن كل إنسان منهم ألزمه ربه طائره في عنقه نحسا كان الذي ألزمه وشقاء يورده سعيرا ، أو كان سعدا يورده جنات عدن ، وإنما أضيف إلى العنق ، ولم يضف إلى اليد أو غيرها من أعضاء الجسد ، قيل لأن العنق هو موضع السمات ، وهو موضع القلادة والأطوقة ونحو ذلك مما يزين به أو يشين ، فجرى كلام العرب على نسبة الأشياء الملازمة سائر الأبدان إلى الأعناق ، كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلى اليد ، فقالوا:ذلك بما كسبت يداك ، وإن كان الذي يجري عليه لسانه أو فرجه ، فكذلك قوله تعالى:{ ألزمناه طائره في عنقه} اه بتصرف قليل .
وخلاصته ، أن قوله تعالى:{ ألزمناه طائره في عنقه} كناية عن ملازمة أعماله له لا تزايله ولا تفارقه يوم القيامة ، وقد أكد سبحانه ذلك المعنى بأن أعماله الملازمة له ملازمة القلادة للعنق محصية عليه إحصاء دقيقا في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، فقال:{ ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا} فيه قراءات ل ( يلقاه ) أولها بنون المتكلم العظيم في نفسه وذاته العلية ، وهو الله سبحانه وتعالى ، وثانيها بالياء ، ويعود بالضمير على الله تعالى ، وهو حاضر في النفس دائما ، وهناك قراءة بالقاف المشددة ( يلقاه ) ، فيه مبالغة في لقائه أو حمل له على التلقي ، وهذا الكتاب هو صحيفة أعماله التي يحاسب على خيرها ، بالجزاء الأوفى ، وعلى شرها بالعذاب الأليم ، ويفهم من كلام البيضاوي أن هذا الكتاب هو ما ينقش على نفسه من الأعمال التي تتكرر ، فتكون بتكرارها خطوطا منتقشة ، وتعرض هذه النقش صحيفة منشورة مكشوفة ، ولننقل عبارته:"هي أي الكتاب صحيفة عمله أو نفسه ، المنتقشة بآثار أعماله ، فإن الأعمال الاختيارية تحدث في النفس أحوالا ، ولذلك يفيد تكريرها لها ملكات"{[1414]} ، أي أن الأعمال بتكررها تحدث نقوشا بهذه الأعمال فتكون كتابا يكشفه الله ، فتكون كتابا منشورا ظاهرا معلوما مكشوفا .