واسم الإشارة في قوله- تعالى-:ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.
أى:ذلك الفضل الكبير، هو البشارة العظمى والعطاء الجزيل، الذي يمنحه الله- تعالى- يوم القيامة لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
قال الآلوسى قوله:ذلِكَ أى:الفضل الكبير، أو الثواب المفهوم من السياق، هو الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أى:يبشر به فحذف الجار ثم العائد إلى الموصول، كما هو عادتهم في التدريج في الحذف ولا مانع من حذفهما دفعة. وجوز كون ذلِكَ إشارة إلى التبشير المفهوم من «يبشر» .. أى:ذلك التبشير يبشره الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
ثم أمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يؤكد لأولئك المشركين من قومه، أنه لا يسألهم أجرا على دعوته، وإنما يسألهم المودة والمعاملة الحسنة لقرابته منهم فقال:قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى.
والضمير المجرور في عَلَيْهِ يعود إلى التبليغ والتبشير والإنذار الذي يفعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم معهم والْقُرْبى مصدر كالقرابة والخطاب لكفار قريش.
وللعلماء في تفسير هذه الآية أقوال:أولها:أن المراد بالقربى:الصلة والقرابة التي تربط بين الرسول وبين كفار قريش.
أى:قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء الكافرين إنى لا أسألكم على التبليغ أجرا، لكن أسألكم أن تؤدونى لقرابتي فيكم، فتكفوا عنى أذاكم، وتمنعوا عنى أذى غيركم، وتستجيبوا لدعوتى، فإن صلة القرابة والرحم التي بيني وبينكم توجب عليكم ذلك.
فالقربى هنا:بمعنى القرابة وصلة الرحم. وفِي للسببية بمعنى لام التعليل كما جاء في الحديث الشريف:«دخلت امرأة النار في هرة» .
ولا شك أن منع أذاهم عنه صلّى الله عليه وسلّم بسبب قرابته فيهم ليس أجرا.
وثانيها:أن المراد بالقربى هنا:أقاربه وعشيرته وعترته فيكون المعنى لا أسألكم أجرا على دعوتي لكم إلى الخير والحق، ولكن أسألكم أن تحفظوني في قرابتي وأهل بيتي، بأن تحسنوا إليهم ولا تؤذوهم بأى نوع من الأذى.
ولا شك- أيضا- أن إحسانهم إلى أقاربه، ليس أجرا منهم له على ذلك لأن الإحسان إلى الناس، شيء قررته جميع الشرائع وتقتضيه مكارم الأخلاق.
وثالثها:أن المراد بالقربى هنا:التقرب إلى الله- تعالى- بالإيمان والعمل الصالح.
أى:لا أسألكم على التبليغ أجرا، ولكن أسألكم أن تتقربوا إلى الله- تعالى- بما يرضيه بأن تتركوا الكفر والفسوق والعصيان، وتدخلوا في الإيمان والطاعة لله- تعالى-.
وهذا الذي طلبه منهم، ليس أجرا على التبليغ، لأن التقرب إلى الله بالطاعات فرض عليهم. وقد رجح العلماء القول الأول، واستدلوا على هذا الترجيح بأحاديث منها:ما رواه البخاري عن ابن عباس أنه سئل عن معنى قوله- تعالى- إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى، فقال سعيد بن جبير:«قربى آل محمد» فقال ابن عباس:عجلت. إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة. فقال:إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة.
وقال ابن كثير بعد أن ساق هذا الحديث وغيره، وبهذا الرأى قال مجاهد وعكرمة، وقتادة، والسدى، وأبو مالك، وعبد الرحمن بن زيد، وغيرهم.
وقال الإمام ابن جرير- بعد أن ساق هذه الأقوال- وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، وأشبهها بظاهر التنزيل، قول من قال معناه:لا أسألكم عليه أجرا يا معشر قريش، إلا أن تودوني في قرابتي منكم، وتصلوا الرحم التي بيني وبينكم.
وإنما قلت هذا التأويل أولى بتأويل الآية، لدخول فِي في قوله:إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى.
ولو كان معنى ذلك على ما قاله من قال إلا أن تودوا قرابتي، أو تتقربوا إلى الله، لم يكن لدخول فِي في الكلام في هذا الموضع وجه معروف ولكان التنزيل إلا مودة القربى، إن عنى به الأمر بمودة قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو إلا المودة بالقربى إن عنى به الأمر بالتودد والتقرب إلى الله- تعالى-.
وفي دخول فِي في الكلام أوضح الدليل على أن معناه إلا مودتي في قرابتي منكم.
ثم بين- سبحانه- جانبا من مظاهر فضله على عباده فقال:وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ.
وقوله يَقْتَرِفْ من القرف بفتح القاف وإسكان الراء. بمعنى الكسب، يقال:فلان يقرف لعياله، أى:يكسب لهم ما يكفيهم لأمور معاشهم.
ومن يكتسب حسنة يبغى بها التقرب إلى الله تعالى، نضاعف له- بفضلنا وإحساننا- ثوابها، إن الله تعالى واسع المغفرة لعباده. كثير الشكر للطائعين بأن يعطيهم من فضله أكثر مما يستحقون ويرجون.