يقول تعالى لما ذكر روضات الجنة ، لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات:( ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) أي:هذا حاصل لهم كائن لا محالة ، ببشارة الله لهم به .
وقوله:( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) أي:قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش:لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح لكم ما لا تعطونيه ، وإنما أطلب منكم أن تكفوا شركم عني وتذروني أبلغ رسالات ربي ، إن لم تنصروني فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة .
قال البخاري:حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عبد الملك بن ميسرة قال:سمعت طاوسا عن ابن عباس:أنه سئل عن قوله تعالى:( إلا المودة في القربى ) فقال سعيد بن جبير:قربى آل محمد . فقال ابن عباس:عجلت إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة ، فقال:إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة . انفرد به البخاري .
ورواه الإمام أحمد ، عن يحيى القطان ، عن شعبة به . وهكذا روى عامر الشعبي ، والضحاك ، وعلي بن أبي طلحة ، والعوفي ، ويوسف بن مهران وغير واحد ، عن ابن عباس ، مثله . وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي ، وأبو مالك ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا هاشم بن يزيد الطبراني وجعفر القلانسي قالا حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا شريك ، عن خصيف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال:قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في نفسي لقرابتي منكم ، وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم ".
وروى الإمام أحمد ، عن حسن بن موسى:حدثنا قزعة يعني ابن سويد - وابن أبي حاتم - عن أبيه ، عن مسلم بن إبراهيم ، عن قزعة بن سويد - عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ; أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجرا ، إلا أن توادوا الله ، وأن تقربوا إليه بطاعته ".
وهكذا روى قتادة عن الحسن البصري ، مثله .
وهذا كأنه تفسير بقول ثان ، كأنه يقول:( إلا المودة في القربى ) أي:إلا أن تعملوا بالطاعة التي تقربكم عند الله زلفى .
وقول ثالث:وهو ما حكاه البخاري وغيره ، رواية عن سعيد بن جبير ، ما معناه أنه قال:معنى ذلك أن تودوني في قرابتي ، أي:تحسنوا إليهم وتبروهم .
وقال السدي ، عن أبي الديلم قال:لما جيء بعلي بن الحسين أسيرا ، فأقيم على درج دمشق ، قام رجل من أهل الشام فقال:الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم ، وقطع قرني الفتنة . فقال له علي بن الحسين:أقرأت القرآن ؟ قال:نعم . قال:أقرأت آل حم ؟ قال:قرأت القرآن ، ولم أقرأ آل حم . قال:ما قرأت:( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) ؟ قال:وإنكم أنتم هم ؟ قال:نعم .
وقال:أبو إسحاق السبيعي:سألت عمرو بن شعيب عن قوله تعالى:( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) فقال:قربى النبي - صلى الله عليه وسلم - . رواهما ابن جرير .
ثم قال ابن جرير:حدثنا أبو كريب ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا عبد السلام ، حدثني يزيد بن أبي زياد ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال:قالت الأنصار:فعلنا وفعلنا ، وكأنهم فخروا فقال ابن عباس - أو:العباس ، شك عبد السلام -:لنا الفضل عليكم . فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاهم في مجالسهم فقال:"يا معشر الأنصار ، ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي ؟ "قالوا:بلى ، يا رسول الله . قال:ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي ؟ "قالوا:بلى يا رسول الله قال:"أفلا تجيبوني ؟ "قالوا:ما نقول يا رسول الله ؟ قال:"ألا تقولون:ألم يخرجك قومك فآويناك ؟ أولم يكذبوك فصدقناك ؟ أولم يخذلوك فنصرناك "؟ قال:فما زال يقول حتى جثوا على الركب ، وقالوا:أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله . قال:فنزلت:( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) .
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن علي بن الحسين ، عن عبد المؤمن بن علي ، عن عبد السلام ، عن يزيد بن أبي زياد - وهو ضعيف - بإسناده مثله ، أو قريبا منه .
وفي الصحيحين - في قسم غنائم حنين - قريب من هذا السياق ، ولكن ليس فيه ذكر نزول هذه الآية . وذكر نزولها في المدينة فيه نظر ; لأن السورة مكية ، وليس يظهر بين هذه الآية الكريمة وبين السياق مناسبة ، والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا رجل سماه ، حدثنا حسين الأشقر ، عن قيس ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:لما نزلت هذه الآية:( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) قالوا:يا رسول الله ، من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم ؟ قال:"فاطمة وولدها ، عليهم السلام ".
وهذا إسناد ضعيف ، فيه مبهم لا يعرف ، عن شيخ شيعي متخرق ، وهو حسين الأشقر ، ولا يقبل خبره في هذا المحل . وذكر نزول هذه الآية في المدينة بعيد ; فإنها مكية ولم يكن إذ ذاك لفاطمة أولاد بالكلية ، فإنها لم تتزوج بعلي إلا بعد بدر من السنة الثانية من الهجرة .
والحق تفسيرها بما فسرها به الإمام حبر الأمة ، وترجمان القرآن ، عبد الله بن عباس ، كما رواه عنه البخاري [ رحمه الله] ولا تنكر الوصاة بأهل البيت ، والأمر بالإحسان إليهم ، واحترامهم وإكرامهم ، فإنهم من ذرية طاهرة ، من أشرف بيت وجد على وجه الأرض ، فخرا وحسبا ونسبا ، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية ، كما كان عليه سلفهم ، كالعباس وبنيه ، وعلي وأهل بيته وذريته ، رضي الله عنهم أجمعين .
[ وقد ثبت] في الصحيح:أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته بغدير خم:"إني تارك فيكم الثقلين:كتاب الله وعترتي ، وإنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض ".
وقال الإمام أحمد:حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث ، عن العباس بن عبد المطلب قال:قلت:يا رسول الله ، إن قريشا إذا لقي بعضهم بعضا لقوهم ببشر حسن ، وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها ؟ قال:فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - غضبا شديدا ، وقال:"والذي نفسي بيده ، لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله ".
ثم قال أحمد حدثنا جرير ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد المطلب بن ربيعة قال:دخل العباس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:إنا لنخرج فنرى قريشا تحدث ، فإذا رأونا سكتوا . فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودر عرق بين عينه ، ثم قال:"والله لا يدخل قلب امرئ إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي ".
وقال البخاري:حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب ، حدثنا خالد ، حدثنا شعبة ، عن واقد قال:سمعت أبي يحدث عن ابن عمر ، عن أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، قال:ارقبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - في أهل بيته .
وفي الصحيح أن الصديق قال لعلي ، رضي الله عنهما:والله لقرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إلي أن أصل من قرابتي .
وقال عمر بن الخطاب للعباس ، رضي الله عنهما:والله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم ; لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب .
فحال الشيخين ، رضي الله عنهما ، هو الواجب على كل أحد أن يكون كذلك ; ولهذا كانا أفضل المؤمنين بعد النبيين والمرسلين ، رضي الله عنهما ، وعن سائر الصحابة أجمعين .
وقال الإمام أحمد ، رحمه الله:حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن أبي حيان التيمي ، حدثني يزيد بن حيان قال:انطلقت أنا وحسين بن ميسرة ، وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم ، فلما جلسنا إليه قال له حصين:لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا ، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمعت حديثه وغزوت معه ، وصليت معه . لقد رأيت يازيد خيرا كثيرا . حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال:يا ابن أخي ، والله كبرت سني ، وقدم عهدي ، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما حدثتكم فاقبلوه ، وما لا فلا تكلفونيه . ثم قال:قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما خطيبا فينا ، بماء يدعى خما - بين مكة والمدينة - فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر ووعظ ، ثم قال:"أما بعد ، ألا أيها الناس ، إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ، وإني تارك فيكم الثقلين ، أولهما:كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به "فحث على كتاب الله ورغب فيه ، وقال:"وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي "فقال له حصين:ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال:إن نساءه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده قال:ومن هم ؟ قال:هم آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل العباس ، قال:أكل هؤلاء حرم الصدقة ؟ قال:نعم .
وهكذا رواه مسلم [ في الفضائل] والنسائي من طرق عن يزيد بن حيان به .
وقال أبو عيسى الترمذي حدثنا علي بن المنذر الكوفي ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا الأعمش ، عن عطية ، عن أبي سعيد - والأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن زيد بن أرقم - قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر:كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، والآخر عترتي:أهل بيتي ، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما "
تفرد بروايته الترمذي ثم قال:هذا حديث حسن غريب .
وقال الترمذي أيضا حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي ، حدثنا زيد بن الحسن ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله قال:رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجته يوم عرفة ، وهو على ناقته القصواء يخطب ، فسمعته يقول:"يا أيها الناس ، إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا:كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي "
تفرد به الترمذي أيضا ، وقال:حسن غريب . وفي الباب عن أبي ذر ، وأبي سعيد ، وزيد بن أرقم ، وحذيفة بن أسيد .
ثم قال الترمذي:حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث ، حدثنا يحيى بن معين ، حدثنا هشام بن يوسف ، عن عبد الله بن سليمان النوفلي ، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن جده عبد الله بن عباس قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه ، وأحبوني بحب الله ، وأحبوا أهل بيتي بحبي "
ثم قال حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه .
وقد أوردنا أحاديث أخر عند قوله تعالى:( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) [ الأحزاب:33] ، بما أغنى عن إعادتها هاهنا ، ولله الحمد والمنة .
وقال الحافظ أبو يعلى:حدثنا سويد بن سعيد ، حدثنا مفضل بن عبد الله ، عن أبي إسحاق ، عن حنش قال:سمعت أبا ذر وهو آخذ بحلقة الباب يقول:يا أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن أنكرني فأنا أبو ذر ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:"إنما مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ، من دخلها نجا ، ومن تخلف عنها هلك ".
هذا بهذا الإسناد ضعيف .
وقوله:( ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا ) أي:ومن يعمل حسنة ( نزد له فيها حسنا ) أي:أجرا وثوابا ، كقوله ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ) [ النساء:40] .
وقال بعض السلف:[ إن] من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، ومن جزاء السيئة ( السيئة ) بعدها .
وقوله:( إن الله غفور شكور ) أي:يغفر الكثير من السيئات ، ويكثر القليل من الحسنات ، فيستر ويغفر ، ويضاعف فيشكر .