/م21
ولبيان عظمة هذا الجزاء تقول الآية التي بعدها: ( ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) .
يبشرهم حتى لا تَصعُب عندهم آلام الطاعة والعبودية ومجاهدة هوى النفس والجهاد حيال أعداء الله ،ويقوم هذا الجزاء العظيم بترغيبهم ويعطيهم القدرة والطاقة الكبيرة لسلوك طرق الحياة المليئة بالصعوبات والمشاكل للوصول إلى رضا الخالق .
وقد يتوهم أن نبيّ الإسلام( صلى الله عليه وآله وسلم ) يريد جزاءً وأجراً على إبلاغ هذه الرسالة ،لذا فإنّ القرآن يأمر الرّسول بعد هذا الكلام ليقول: ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى ) أي حبّ اهل بيتي .
ومودة ذوي القربى ومحبتهمكما سيأتي بيانها بشكل مفصلترتبط بقضية الولاية وقبول قيادة الأئمة المعصومين عليهم السلام من آل الرّسول حيث تعتبر في الحقيقة استمراراً لقيادة النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) واستمراراً للولاية الإلهية ،وجليّ أن قبول هذه الولاية والقيادة كقبول نبوة النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ستكون سبباً لسعادة البشرية نفسها وستعود نتائجها إليها .
توضيح
هناك بحوث متعددة وتفاسير مختلفة للمفسّرين في تفسير هذه الجملة ،بحيث إذا ما نظرنا إليها بدون أي موقف مسبق نشاهد أنّها ابتعدت عن المفهوم الأصلي للآية بسبب الدوافع المختلفة ،وذكروا احتمالات لا تتلاءم مع محتوى الآية ،ولا مع سبب نزولها ، ولا مع سائر القرائن التأريخية والروائية .
وبشكل عام هناك أربعة تفاسير معروفة للآية:
1هو ما قلناه أعلاه ،حيث أن المقصود من ذوي القربى هم أقرباء الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،وحبّهم يعتبر وسيلة لقبول إمامة وقيادة الأئمّة المعصومين( عليهم السلام )من نسل الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،ودعماً لتطبيق الرسالة .
وقد اختار هذا المعنى جمع من المفسّرين الاوائل ،وجميع المفسّرين الشيعة ،ووردت روايات كثيرة من طرق الشيعة والسنّة في هذا المجال سنشير إليها لاحقاً .
2المقصود هو أن جزاء الرسالة وأجرها هو حب أُمور معينة تقربكم من الله .
هذا التّفسير الذي ذكره بعض مفسّري أهل السنة لا يتلاءم مع ظاهر الآية أبداً ،لأن معنى الآية سيصبح هكذا: إنني أريد منكم أن تحبوا طاعة الخالق ،وتودونه في قلوبكم ،في حين أنّه يجب أن يقال: إنني أريد منكم أن تطيعوا الخالق ،( وليس مودة الطاعة الإلهية ) .
إضافة إلى ذلك فإنّه لا يوجد أحد بين المخاطبين في الآية لا يرغب بالتقرب من الخالق ،وحتى المشركين كانوا يرغبون بذلك ،وكانوا يظنون أن عبادة الأصنام تعتبر وسيلة لهذا الأمر .
3المقصود حبّ أقربائكم بعنوان أجر الرسالة ،أي بصلة الرحم .وبملاحظة هذا التّفسير لا يوجد أي ترابط بين الرسالة وأجرها ،لأنّه ماذا يستفيد الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) من حبّ الشخص أقرباءهُ ؟وكيف يمكن اعتبار هذا الأمر أجراً للرسالة ؟!
4المقصود أن أجري هو أن تحفظوا قرابتي منكم ،ولا تؤذونني ،لأني أرتبط برابطة القرابة مع أكثر قبائلكم ( لأن الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يرتبط بقبائل قريش نسبياً ،وبالقبائل الأُخرى سببياً ( عن طرق الزواج ) ،وعن طريق أمه بعض أهالي المدينة من قبيلة بني النجار ،وعن طريق مرضعته بقبيلة بني سعد ) .
هذه العبارة هي أسوأ تفسير مذكور للآية ،لأن طلب أجر الرسالة هو من الأشخاص الذين آمنوا بها ،ومع هؤلاء الأشخاص لا توجد حاجة إلى مثل هذا الكلام ،فأُولئك كانوا يحترمون النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأنّه مرسل إلهي ،ولا توجد حاجة لإحترامه بسبب قرابته ،لأن الإحترام الناشىء بسبب قبول الرسالة فوق جميع هذه الأُمور ،وفي الواقع يجب اعتبار هذا التّفسير من الأخطاء الكبيرة التي أصابت بعض المفسّرين ومسخت مفهوم الآية بشكل كامل .
ولكي نفهم حقيقة محتوى الآية بشكل أفضل ،علينا طلب العون من الآيات القرآنية الأُخرى:
نقرأ في العديد من آيات القرآن المجيد: ( ما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين ){[4116]} .
وهناك عبارات مختلفة تخصّ الرّسول ،فقد ورد في القرآن: ( قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلاّ على الله ){[4117]} .
وفي مكان آخر نقرأ: ( قل ما أسألكم عليه من أجر إلاّ من شاء أن يتخذ إلى ربّه سبيلا ) .
وأخيراً: ( قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ){[4118]} .
وعندما نضع هذه الآيات الثلاث إلى جانب الآية التي نبحثها ،يسهلً علينا الإستنتاج: ففي مكان تنفي الآية الأجر والجزاء بشكل كامل .
وفي مكان آخر تقول الآية: إنني أطلب الأجر من الأشخاص الذين يريدون سلوك الطريق إلى الخالق .
وبخصوص الآية الثّالثة فإنّها تقول: إنّ الأجر الذي أطلبه منكم إنّما هو لكم .
وأخيراً فإن الآية التي نبحثها تضيف: إن مودّة القربى هي أجر رسالتي ،يعني أن الأجر الذي طلبته منكم ويشمل هذه الخصوصيات: لا يعود نفعه إلىّ أبداً ،بل ينفعكم بالكامل ،ويعبّد الطريق أمامكم للوصول إلى الخالق .
وعلى هذا الأساس ،فهل تعني الآية شيئاً آخر سوى قضية استمرار خط رسالة النّبي الكريم بواسطة القادة الإلهيين وخلفاءه المعصومين الذين كانوا جميعهم من عائلته ؟لكن لأن المودة هي أساس هذا الإرتباط نرى أن الآية أشارت بصراحة إلى ذلك .
والطريف في الأمر أن هناك خمسة عشر مورداً في القرآن المجيدغير الذي ذكرنا ذكر فيه كلمة ( القربى ) حيث أن جميعها تعني الأقرباء ،ومع هذا الوضع لا نعلم لماذا يصر البعض بحصر معنى كلمة القربى في ( التقرب إلى الله ) ويتركون المعنى الواضح والظاهر المستخدم في جميع الآيات القرآنية ؟.
ومن الضروري الإشارة إلى هذه الملاحظة ،وهي أنّه ورد في آخر الآية: ( ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً إن الله غفور شكور ) .وهل هناك حسنة أفضل من أن يكون الإنسان دائماً تحت راية القادة الإلهيين ،يحبّهم بقلبه ،ويستمر على خطهم ،يطلب منهم التوضيح للقضايا المبهمة في كلام الخالق ،يعتبرهم القدوة والأسوة وسيرتهم وعملهم هو المعيار .
الروايات الواردة في تفسير هذه الآية
الدليل الآخر على التّفسير أعلاه هو الروايات المتعددة الواردة في مصادر أهل السنة والشيعة ،والمنقولة عن الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،حيث توضح أن المقصود من ( القربى ) هم أهل البيت والمقربون وخاصة الرّسول ،وعلى سبيل المثال نذكر:
1ينقل ( أحمد بن حنبل ) في فضائل الصحابة بسنده عن سعيد بن جبير عن عامر: لما نزلت: ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى ) قالوا: يا رسول الله !ومن قرابتك ؟من هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم ؟قال: «علي وفاطمة وابناهما عليهم السلام ،وقالها ثلاثاً »{[4119]} .
2ورد في ( مستدرك الصحيحين ) أن الإمام علي بن الحسين( عليه السلام ) قال: عند استشهاد أمير المؤمنين الإمام علي( عليه السلام ) ،وقف الحسن بن علي( عليه السلام ) يخطب في الناس ،وكان ممّا قال: إنا من أهل البيت الذين افترض الله مودتهم على كلّ مسلم ،فقال تبارك وتعالى لنبيّه:( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً ) فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت{[4120]} .
3ذكر ( السيوطي ) في ( الدر المنثور ) في نهاية الآية التي نبحثها عن مجاهد عن ابن عباس أنّه قال في تفسير آية: ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى ):أن تحفظوني في أهل بيتي وتودوهم بي{[4121]} .
ومن هنا يتّضح ضعف ما ينقل عن ابن عباس بطريق آخر من أن المقصود هو عدم إيذاء النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) بسبب قرابته مع القبائل العربية المختلفة .
4ينقل ( ابن جرير الطبري ) في تفسيره بسنده عن ( سعيد بن جبير ) وبسند آخر عن ( عمر بن شعيب ) أن المقصود من هذه الآية هم قربى رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ){[4122]} .
5وينقل العلاّمة الطبرسي عن ( شواهد التنزيل ) للحاكم الحسكاني ،الذي هو من المفسّرين والمحدثين المعروفين لأهل السنة ،عن ( أبي أمامة الباهلي ) أن رسول الإسلام( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال: «إن الله خلق الأنبياء من أشجار شتى ،وأنا وعلي من شجرة واحدة ،فأنا أصلها ،وعلي فرعها ،وفاطمة لقاحها ،والحسن والحسين ثمارها ،وأشياعنا أوراقها حتى قاللو أن عبداً عبد الله بين الصفا والمروة ألف عام ،ثمّ ألف عام ،ثمّ ألف عام ،حتى يصير كالشن البالي ،ثمّ لم يدرك محبتنا كبه الله على منخريه في النّار ،ثمّ تلا: ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى ) » .
والطريف في الأمر أن هذا الحديث اشتهر بدرجة بحيث أن الشاعر المعروف الكميت أشار إلى ذلك في أشعاره ،فقال:
وجدنا لكم في آل حاميم آية *** تأوّلَها منا تقيٌّ ومعربُ{[4123]}
6وينقل السيوطي أيضاً في ( الدر المنثور ) عن ابن جرير عن أبي الديلم: عندما تأسّر علي بن الحسين( عليه السلام ) ،وأوقفوه في بوابة دمشق ،قال رجل من أهل الشام: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم .
قال علي بن الحسين( عليه السلام ): هل قرأت القرآن ؟
قال: نعم
قال: هل قرأت سور حم .
قال: لا .
قال: ألم تقراً هذه الآية: ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى ) .
قال: أأنتم الذين أشارت لهم هذه الآية ؟
قال: بلى{[4124]} .
7نقل ( الزمخشري ) حديثاً في «تفسير الكشاف » وقد اقتبسه أيضاً الفخر الرازي والقرطبي في تفسيرهما ،حيث يوضح هذا الحديث مقام آل محمّد وأهمية حبّهم ،فيقول:
قال رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ): من مات على حب آل محمّد مات شهيداً
ألا ومن مات على حب آل محمّد مات مغفوراً له
ألا ومن مات على حب آل محمّد مات تائباً
ألا ومن مات على حب آل محمّد مات مؤمناً مستكمل الإيمان
ألا ومن مات على حب آل محمّد بشره ملك الموت بالجنة ثمّ منكر ونكير
ألا ومن مات على حب آل محمّد فتح له في قبره بابان إلى الجنّة
ألا ومن مات على حب آل محمّد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة
ألا ومن مات على حب آل محمّد مات على السنة والجماعة
ألا ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله
ألا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافراً ألا ومن مات على بغض آل محمّد لم يشم رائحة الجنّة{[4125]} .
والطريف في الأمر أن ( الفخر الرازي ) بعد ذكر هذا الحديث الشريف الذي أرسله «صاحب الكشاف » ارسال المسلمات ،يقول: «وأنا أقول: آل محمّد هم الذين يؤول أمرهم إليه ،فكل من كان أمرهم إليه أشد وأكمل كانوا هم الآل ،ولا شك أن فاطمة وعلياً والحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول الله أشد التعلقات ،وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر فوجب أن يكونوا هم الآل ،وأيضاً اختلف الناس في الآل فقيل هم الأقارب وقيل هم امته فإن حملناه على القرابة فهم الآل وإن حملناه على الأُمة الذين قبلوا دعوته فهم أيضاً آل ،فثبت أن على جميع التقديرات هم الآل ،وأما غيرهم فيدخلون تحت لفظ الآل ؟فمختلف فيه .
وروى فيه صاحب الكشاف أنّه لما نزلت هذه الآية قيل: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم ؟فقال علي وفاطمة وابناهما فثبت أن هؤلاء الأربعة أقارب النّبي ،وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم ويدل عليه وجوه:
الأول: قوله تعالى: ( إلا المودة في القربى ) ووجه الإستدلال به ما سبق .
الثّاني: لا شك أن النبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يحب فاطمة وقال ( فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها ) وثبت بالنقل المتواتر عن رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه كان يحب علياً والحسن والحسين وإذا ثبت ذلك وجب على كلّ الأمة مثله لقوله: ( واتبعوه لعلكم تهتدون ) ولقوله تعالى: ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره ) ولقوله: ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) ولقوله سبحانه: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) .
الثّالث: أن الدعاء للآل منصب عظيم ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة وهو قوله اللهم صل على محمّد وعلى آل محمّد وأرحم محمّداً وآل محمّداً .وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل ،فكل ذلك يدل على أن حبّ آل محمّد واجب .
وقال الشافعي رضي الله عنه:
يا راكباً قف بالمحصب من منى *** واهتف بساكن خيفها والناهض
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى *** فيضاً كما نظم الفرات الفائض
إن كان رفضاً حب آل محمّد *** فليشهد الثقلان أني رافضي{[4126]}
نعم فهذا مقام آل محمّد الذين نتمسك بهم ونؤمن بهم كقادة لنا ،وسراج لديننا ودنيانا ،ونعتبرهم أسوة وقدوة لنا ،ونرى أن استمرار خط النبوة في إمامتهم .
وطبعاً ،فإن هناك روايات كثيرة اُخرى غير التي ذكرناها أعلاه ،في المصادر الإسلامية ،وقد اكتفينا بسبع روايات مراعاة للإختصار ،ولكن لا بأس من ذكر هذه الملاحظة ،وهي أنّه في بعض المصادر الكلامية كإحقاق الحق وشرحه المبسوط ،ورد الحديث المعروف أعلاه بشأن تفسير الآية: ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ الموة في القربى ) منقولا عن خمسين كتاباً تقريباً من كتب أهل السنة ،حيث يبيّن هذا الأمر مدى انتشار هذه الرواية واشتهارها ،بغض النظر عن المصادر الكثيرة التي تنقل هذا الحديث عن طريق أهل البيت( عليهم السلام ) .
/خ23