ثم بين- سبحانه- الطرق التي بها يقع التكليم منه- تعالى- للمختارين من عباده فقال:
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً، أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ ...
فهذه الآية الكريمة قد دلت على أن تكليم الله- تعالى- للبشر وقع على ثلاثة أوجه:
الأول:عن طريق الوحى، وهو الإعلام في خفاء وسرعة عن طريق الإلقاء في القلب يقظة أو مناما، ويشمل الإلهام والرؤيا المنامية.
والوحى مصدر أوحى، وقد غلب استعماله فيما يلقى للمصطفين الأخيار من الكلمات الإلهية.
والثاني:عن طريق الإسماع من وراء حجاب، أى حاجز، بأن يسمع النبي كلاما دون أن يرى من يكلمه، كما حدث لموسى. عليه السلام- عند ما كلمه ربه- عز وجل-، وهذا الطريق هو المقصود بقوله- تعالى-:أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ.
والثالث:عن طريق إرسال ملك، وظيفته أن يبلغ الرسول ما أمره الله بتبليغه له، وهو المقصود بقوله- تعالى- أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ.
وهذا الطريق الثالث قد وضحه الحديث الذي رواه الإمام البخاري عن عائشة- رضى الله عنها- أن الحارث بن هشام، سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:يا رسول الله، كيف يأتيك الوحى؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس- وهو أشده على- أى:أحيانا يأتينى مشابها صوته وقوع الحديد بعضه على بعض- فيفصم عنى وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعى ما يقول.
قالت عائشة:ولقد رأيته صلّى الله عليه وسلّم ينزل عليه الوحى في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه،وإن جبينه ليتفصد عرقا.
والمعنى:وما صح وما استقام لبشر أن يكلمه الله- تعالى- في من حال الأحوال إلا موحيا إليه، أو مسمعا إياه ما يريد إسماعه له من وراء حجاب أو يرسل إليه ملكا ليبلغه ما يريده- سبحانه- منه.
وقوله- تعالى- إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ تعليل لما قبله، أى:إنه- سبحانه- متعال عن صفات النقص، حكيم في كل أقواله وأفعاله.