كيف يكلِّم الله البشر ،هل كما يكلم البشر بعضهم بعضاً ،أم بأسلوب يختلف عن ذلك ؟
إن الآية تحدثنا عن وسائل ثلاثٍ يوصل بها الله ما يريد من معانٍ يريد للناس أن يعوها في ذواتهم ،أو أن يبلّغوها للآخرين منهم ..
..وإذا كنا نتحدث عن كلامه ،فإننا لا نتحدث عن أصواتٍ تصدر عنه كما تصدر عن خلقه ،لأن ذلك من شؤون التجسيم الذي لا نقول به ،بل الظاهر أن الله يخلق الكلام كما يخلق العباد ،ليعبِّر به عن المضمون الفكري والعملي الذي يلتزمه الناس في حياتهم .
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ} بطريقة المواجهة المباشرة ،لأن الرؤية التي تفرضها تلك الطريقة غير ممكنة ،ولكن هناك طريقةً أخرى لا يكون الكلام فيها{إِلاَّ وَحْياً} عبر ما يوحي به إلى الناس بشكلٍ مباشرٍ مما يلقيه في نفوسهم ويثيره في وجدانهم مما يشبه الإلهام الروحي والفكري والشعوري ،{أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} في ما يُصدره الله من كلام يلقيه إلى بعض عباده الذين يقفون في موقع من الأرض ولا يرون المتكلِّم لوجود حجابٍ معنويّ يفصلهم عنه ،ويمنعهم من رؤيته ،على نحو الحجاب الذاتي ،كما في كلام الله لموسى( ع ) في الطور الذي عبر عنه الله بقوله:{فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [ القصص:30] ولعل اختصاص موسى( ع ) بصفة كليم الله ،كما حدثنا الله:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [ النساء:164] ناشىءٌ من أنه الوحيد الذي حدّثه الله بشكلٍ مباشر بهذه الطريقة .
وقيل: إنه من هذا الباب ما أوحي إلى الأنبياء في مناماتهم ،وهو غير واضح من خلال استعمال كلمة الوحي بالإلهام في القرآن في الإيحاء إلى النحل ونحوها ،وليس من الواضح أن ما يأتي في المنام هو من هذا القبيل ،بل الوارد في ذلك أن يأتيه آتٍ من ملك أو غيره ليحدثه كما ورد في ما يأخذ رسول الله من السبات إذا أتاه جبريل في النوم ..
{أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} من الملائكة فيبلّغ النبي وحي الله في رسالته ،وربّما كان المراد من الرسول هو النبي ،بلحاظ إطلاق هذه الكلمة عليه في القرآن ،وعدم إطلاقها على الملائكة ،ويكون مثل هذا تكليماً للبشر ،باعتبار أنه يتضمن خطاباً لهم ،وحديثاً معهم ،بشكل غير مباشر ،في ما يريد أن يلقيه إليهم من أوامر ونواهٍ وتعاليم ،وبذلك يكون المراد من الوحي ،ما يحصل بالإلهام أو بواسطة الملائكة لكثرة إطلاقه في القرآن على ذلك ،ولكن قد ينافي في ذلك ما جاء في الفقرة التالية:{فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ} حيث يتحمل الرسول مسألة الوحي ،بينما يتحمل النبي مسألة التبليغ ،لأن دوره هو دور التلقّي للوحي .
{إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} فهو الذي لا يقترب إليه أحدٌ في علوّه ،فلا اختيار لأيِّ مخلوقٍ في أيّ شأنٍ من شؤون الله من تكليم وغيره إلا بإذنه ،وهو الذي يرعى عباده بحكمته في ما يخطّط لهم ،وفي ما ينزله عليهم ،أو ما يكلفهم به .