{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} أي من خلال ما يريد الله أن يكلمك به ،في ما يلقي إليك من كلامه ،كان الوحي هو السبيل إلى ذلك{رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} ،والظاهر أن المراد منه القرآن الذي أوحى به الله إليه باعتبار أنه يمثل الروح المعنوية التي يبدعها الله من أمره وإرادته ،فهو الفكر الذي يعطي للمجتمع حياته ،وللحياة العامة والنظام المتوازن لحياة الناس ،حيويّتهما .
وهناك أقوالٌ أخرى في تفسير هذه الكلمة «الروح من أمره » .فقد قيل: إن المراد بالروح جبريل ،فإن الله سمّاه روحاً ،قال:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ} [ الشعراء:193194] وقال:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ} [ النحل:102] .
وقيل: المراد بالروح الروح الأمري الذي ينزل مع ملائكة الوحي على الأنبياء كما قال تعالى:{يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ} [ النحل:2] ولكن ذلك يقتضي أن يكون الإِيحاء بمعنى الإنزال والإرسال ،وهو غير ظاهر .
المعرفة النبوية رسالة إلهية
{مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ} فلم تكن لديك أية معرفةٍ ذاتيةٍ بالكتاب الذي أنزله الله على رسله من التوراة والإنجيل وغيرهما حتى عرّفك الله منه ما أراد لك أن تعرفه ،أو بالقرآن الذي أرسلك الله به حتى أنزله عليك ،ولم يكن لديك أية ثقافةٍ شخصية في حدود الإيمان وشرائعه وحركته وما يتعلق به ،حتى جاءك الوحي ليحدّد لك كل ذلك ،في وعيٍ تفصيليِّ كامل ..وهذا ما يؤكد لنا أن المعرفة النبوية لم تكن مخلوقةً مع النبي في ذاته ،بل هي شيءٌ مكتسبٌ من الله منفصلٌ عن عملية خلقه ،وعن بداية نبوّته ،وليس معنى ذلك أنه لا يملك المعرفة الواعية من خلال تأملاته وتجاربه وألطاف الله التي تحيط به ،بل إن معنى ذلك ،هو التكامل التدريجيّ في شخصيته الروحية والفكرية ،بالمستوى الذي لا يبتعد فيه عن معنى العصمة ..وهذا ما نستوحيه من أكثر من آية من القرآن ،وتلك هي عظمة النبوّة في النبي ،حيث فتحت له آفاقاً واسعةً لم يكن له عهد بها ،لو لم يعهدها الناس فيه ،ما يدل على أن المسألة لم تكن حالةً ذاتيةً ،بل كانت شأناً رساليّاً إلهيّاً .
الوحي نور إلهي
{وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا} فليس الوحي رسالةً موجّهةً إلى النبي ليهتدي بها ،بل هي نور يضيء طريق الناس الذين يفتحون عقولهم وقلوبهم للهداية ،فيمن أراد الله له أن يهتدي بالوسائل الطبيعية للهداية ،تماماً كما هو النور الذي لا يختص بحامله ،بل يضيء الطريق لكل من يسير مع صاحبه ذاك على الطريق ،وبذلك كان النبي هادياً بواسطة هذا الوحي الذي أنزله الله في قرآنه ،في ما يشرق من نوره الفكري والروحي في حياة الناس{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} لا عوج فيه ولا التواء ،لأنه يمثل الخط الذي يربط البداية التي ينطلق فيها الناس في وجودهم وإيمانهم من الله ،بالنهاية التي يرجع فيها الناس إليه في مواقع المسؤولية ،