قوله تعالى: ( الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقوني يأولي الألباب ) ( الحج ) مبتدأ مرفوع خبره أشهر ( معلومات ) صفة .ومن المعلوم أن جميع السنة وقت للإحرام بالعمرة .لكن الحج يقع في وقت محدد من كل عام بحيث لا يصح الإحرام به غير هذا الوقت .ذلك الذي ذهب إليه الشافعي ،وهو مروي عن ابن عباس وجابر وآخرين استنادا إلى قوله: ( الحج أشهر معلومات ) .
وقال آخرون بصحة الإحرام بالحج في جميع السنة .وذلك الذي ذهب إليه الأئمة مالك وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وإسحاق وغيرهم .وقد احتجوا لهذا القول بالآية: ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) .والراجح عندي ما ذهب إليه الشافعي وهو أن الإحرام بالحج لا يصح إلا في أشهره المعلومة ،ويرجح ذلك حديث جابر عن النبي ( ص ):"لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج "يضاف إلى ذلك أن الإحرام طيلة العام إذا وقع ،فإن فيه حرجا عظيما .وهو في قواعد الشريعة مرفوع .وقد اختلف العلماء في حقيقة الأشهر المعلومات الواردة في الآية .وثمة قولان في ذلك:
أحدهما: أن الأشهر المعلومات هي شوال وذو القعدة وذو الحجة كله ،وهو قول ابن مسعود وابن عمر وعطاء ومجاهد والزهري وغيرهم .
ثانيهما: أنها شوال وذو القعدة والأيام العشرة الأولى من ذي الحجة كله ،وهو قول ابن عباس وعمر وعلي وابن الزبير والسدي والشعبي والنخعي .وهو مذهب الأئمة أبي حينفة والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي يوسف وأبي ثور .
وقوله: ( فمن فرض فيهن الحج ) من اسم شرط في محل رفع مبتدأ وخبره فعل الشرط ( فرض ) وجواب الشرط الجملة المقترنة بها الفاء ( فلا رفث ) .
والمعني أن من أحرم بالحج فألزم نفسه به ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) الرفث هو الجماع ومقدماته وأسبابه ،فإن ذلك كله حرام في حال الإحرام .وبذلك يحرم على المحرم بالحج أو العمرة أن يباشر النساء أو يقبّل أو يعمل شيئا من دواعي الجماع كيفما كانت .وأما الفسوق فهو في اللغة الخروج ،وفعله فسق يفسق أي خرج يخرج .وقد قال الله سبحانه عن إبليس إذ تمرد على ربع وعصاه .( ففسق عن أمر ربه ) أي خرج عن أمره ،والمراد بالفسوق جميع المعاصي التي يخرج بها المرء عن أمر الله وعن الامتثال لشرع ،والمرء إذا أحرم بالحج أو العمرة أو كليهما فإن عليه أن يكون في غاية الطاعة والامتثال والأدب مع الله سبحانه فلا يرفث بشيء من أمر النساء أو الجمع ودواعيه ،ولا يفسق بشيء من المعاصي .وهي وإن كانت محظورة في جميع أحيان السنة ،لكن تحريمها في حال الإحرام آكد وأشد .ولا يتجنب المحرم هذه المحظورات من رفث أو فسوق في الحج حتى يفوز عند الله بخير الجزاء وعظيم الغفران .فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ( ص ): "من حج هذا البيت فلم برفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ".
وأما الجدال في الحج فقد جاء فيه أقوال عديدة ،نختار منها ما ذكر عن كثير من العلماء من الصحابة والتابعين وهو أنه المراء والملاحاة حتى إغضاب الآخرين .وقد سئل ابن عباس عن الجدال فقال: المراء ،تماري صاحبك حتى تغضبه .والمراء والملاحاة أسلوب الغلاظ الجفاة من الناس الذين ديدنهم كثرة الحديث والتكلم في غير علم أو فائدة بما يغيظ السامعين ويغضبهم .ومن خلق المسلم أن يكون ذا وقار واتزان ،وأن يؤثر طول الصمت وقلة الكلام على الثرثرة الفارغة .
وفي تجنب الجدال والفسوق في الحج يقول النبي ( ص ):"من قضى نسكه وسلم المسلمون من لسانه ويده ،غفر له ما تقدم من ذنبه ".
ثم يرغّب الله عباده المؤمنين بفعل الخيرات .وهو سبحانه عليم بهذه الأفعال ،وسوف يجزيهم بها ؛لذلك قال سبحانه: ( وما تفعلوا من خير يعلمه الله ){[275]} .
وقوله: ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) جاء عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية أن أناسا كانوا يخرجون للحج وليست معهم أزودة ،مفردها زاد ،ويقولون: نحج بيت الله ولا يطعمنا ؟فأمرهم الله أن يتزودوا بما يكف وجوههم عن الناس .
وفي رواية أخرى عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون فأنزل الله: ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ){[276]} وفي ذلك ما يبين للناس أن طبيعة هذا الدين عملية ،فإنه ليس من الدين التواكل الذي يعجز معه بعض الواهمين والجهلة عن السعي والبذل والعطاء ليقولوا: نحن المتوكلون .فإن المتوكلين الحقيقيين الذين يرضى عنهم الله هم العاملون الباذلون الذين يأخذون بزمام الجد والعمل في غير عجز أو كسل وهم مع ذلك كله يتوكلون على الله ،ولا يبرح أنفسهم شعور الاعتماد عليه وحده سبحانه .
ومع الدعوة للتزود بزاد الدنيا من طعام وغيره فإن الله يدعو الحجاج والمعتمرين للتزود بزاد الآخرة ليكتب الله لهم النجاة وسلامة المصير .وذلكم هو زاد التقوى وهو خير زاد تتزود به القلوب ،فقال سبحانه: ( فإن خير الزاد التقوى ) ثم يعطف الله بالتأكيد على التقوى إذ يخاطب من عباده أولي الألباب .وهم ذوو العقول والأفهام النيّرة ،يخاطبهم بالدعوة لتقواه فيبادرون لعمل الطاعات ويبتعدون سراعا عن المناهي والمحظورات ،فقال سبحانه: ( واتقوني يا أولي الألباب ) .