قوله تعالى:{ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى ( 77 ) فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم ( 78 ) وأضل فرعون قومه وما هدى ( 79 )} .
هذه آيات قصار وقلائل يتدفق من خلالها الإعجاز الظاهر المستعذب .إعجاز ندي وكريم يستشرفه القارئ بفطرته السليمة ليجد فيه من حلاوة النغم وعذوبة الإيقاع ما يثير الوجدان والخاطر ،ويملأ القلب والخيال بهجة وسكينة ،لفرْط ما يتجلى في هذا النظم العجيب من جمال الكلم ،بألفاظه المميزة المصطفاة ،وحروفه الشجية الندية التي تفيض على الجو والخيال ظلالا من النسائم الروحية العطرة .فلكأن القارئ الذي يعشق مثل هذا النظم الباهر يستشعر في أعماقه بنُقلة روحية ونفسية وذهنية يتملاها الخيال ويعشقها الحس .فيا لله لهذا الكلام الرباني العجيب .
أما المعنى للآية: فإنه لما قضى الله أن يهلك فرعون وجنوده الظالمين أمر رسوله موسى أن يخرج ببني إسرائيل من مصر ليلا فيأخذ بهم طريق البحر .ولما وصل موسى وبنو إسرائيل البحر ،وفرعون يتبع أثرهم بجنوده حتى إذا تراءى الجمعان ،أصاب بني إسرائيل الهلع والذعر ؛إذ ظنوا حينئذ انه لا منجاة لهم ولا ملجأ ،يفرون إليه ،فالبحر من أمامهم ،وفرعون وجنوده من ورائهم ،لكن الله نصير المؤمنين الصابرين ومغيث المكروبين المظلومين ،ومعز رسله الأبرار الطاهرين ،قد أمر نبيه وكليمه موسى أن يضرب للبحر بعصاه .وهو قوله: ( فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا ) يبسا منصوب على أنه صفة لقوله: ( طريقا ) وهو مصدر .نقول: يبس يبسا ويُبسا أي لا ماء فيه ولا طين .
لقد ضرب موسى البحر بعصاه فانفلق منه اثنا عشر طريقا يابسا لا ماء فيه ولا طين وبين كل طريقين ماء قائم كالجبال وهو قوله في آية ثانية ( فكان كل فرق كالطود العظيم ) أي الجبل الكبير .فأخذ كل سبط من بني إسرائيل طريقا يمشي فيه آمنا سالما من كل مكروه ،لا جرم أن هذا من أعظم المعجزات التي امتنّ الله بها على بني إسرائيل .
قوله: ( لا تخاف دركا ) الجملة الفعلية في موضع نصب على الحال .والتقدير: فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ؛أي غير خائف إدراك فرعون{[2976]} والدرك والإدراك بمعنى اللحاق .
قوله: ( ولا تخشى ) أي لا تخشى من البحر أن يغشاكم .فلا فرعون يدرككم ولا البحر مغرقكم أو مطبق عليكم .ولكنكم آمنون سالمون وستمضون وسط البحر فوق اليبس في منجاة من كل سوء أو مكروه .