قوله تعالى: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) الفعل كان في قوله: ( كنتم ) ناقصة .وبذلك فقوله: ( كنتم ) يحتمل المراد ثلاثة وجوه هي:
الأول: أنكم كنتم في اللوح المحفوظ موصوفين بأنكم خير أمة .
الثاني: أن ذلك مخصوص بقوم معينين من أصحاب الرسول صلى الله عليه و سلم وهم السابقون الأولون .
الثالث: أن هذه الآية عامة في جميع الأمة الإسلامية كل قرن بحسبه ،وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم .وهو الراجح والصواب .
وقيل: كان هنا تامة .فيكون المعنى: وجدتم وخلقتم خير أمة{[564]} .
وكيفما كان اعتبار"كان "هنا فإنه يجب الاستفادة من مدلول الآية في خيرية أمة الإسلام بما يستثير الانتباه والنظر إلى هذه الحقيقة الكبرى .وهي أن أمة القرآن خير الأمم التي أقلتها هذه الأرض ،ولا يقال مثل هذه الكلام من قبيل التعصب للجنس أو العرق أو غير ذلك من مختلف المظاهر النوعية والإقليمية .ولكنها الحقيقة المبنية على الدليل والبرهان .ووجه ذلك أن أمة الإسلام قد صنعها هذا الدين المتكامل المميز الوسط ،الدين الذي يتسم بكل مزايا التوازن والتوسط ،فضلا عن مراعاته الكاملة لفطرة الإنسان ،لا جرم أن مثل هاتيك الخصائص لا تتجلى في ديانة ولا عقيدة ولا ملة ولا فلسفة من الفلسفات أو مبدأ من مبادئ الدنيا ،ليس شيء من ذلك إلا مناهض لفطرة الإنسان أو مخالف لطبيعته مهما كان مدى هذه المخالفة ،لكن الإسلام وحده جُماع مزايا الصلاح كله .يضاف إلى ذلك ما نبه عنه القرآن في هذه الآية وهما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .وذان عنصران أساسيان قد تجليا في أمة الإسلام تجليا مكشوفا وعلى غير مثال ولا نظير في الملل السابقة .وفوق ذلك كله ما يتجلى في هذه الأمة من إيمان صادق وثيق ،إيمان حقيقي سليم ،مبرأ من كل زيف أو تضليل أو خرافة ،إيمان بالله وحده لا شريك له وما يستتبعه ذلك من أسماء لله حسنى وما تقتضيه هذه من صفات الكمال لله جل وعلا .
إذا تبين ذلك أيقنا أن عقيدة الإسلام وحدها المبنية على التوحيد الكامل لله ،الخالصة من كل أدران الشرك على اختلاف صوره وأشكاله ،البعيدة عن كل صور الزيف والافتراء والباطل .
من هنا لزم القول إن أمة الإسلام وحدها لهي المخولة بقيادة البشرية إلى ما فيه أمنها وسلامتها وسعادتها ،ذلك أن هذه الأمة قد صنعها الإسلام لتكون على خير حال من توازن الشخصية واستواء الطبع وجمال العقيدة والفكر ،في غير ما خلل ولا شذوذ ولا اضطراب ،وبعيدا عن كل صور الإفراط والتفريط .أمة منسجمة ملتئمة متسقة في أفكارها وتصوراتها وتطلعاتها وحضارتها ،فهي وحدها معنية بحمل رسالة الإصلاح والهداية والترشيد للبشرية تخليصا لها مما يحيق بها من الأرزاء والملمات والأزمات .أمة الإسلام قائمة على الود والرحمة واليقين ،وقد جيء بها لتحمل لواء الرحمة للناس جميعا ،فتتبدد من وجه هذه الدنيا كل معالم الشر والفساد والباطل .ولتشعشع في الآفاق أنوار الخير والتعاون والسلام .
قوله: ( ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) أي لو صدق أهل التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى بمحمد صلى الله عليه و سلم وما جاءهم في ذلك من عند الله ،فآمنوا كإيمان المسلمين ،هذا الإيمان الحقيقي الصادق الذي لا يعتوره زيف ولا تضليل ولا خلل ،والذي لا يخالطه تحريف ولا تبديل ولا افتراء ( لكان خيرا لهم ) لسوف يفضي بهم هذا الإيمان الصحيح إلى الخير .إذ يصنع منهم أمة سوية رحيمة سليمة من عطب العقيدة وفساد الفكر والتصور .
ومع ذلك فقد آمن بنبي الإسلام نفر قليل من أهل الكتاب ،لكن الأكثرين مهم الفاسقون ،وذلك من الفسق أي الخروج ،فقد خرج أهل الكتاب من اليهود والنصارى عن دينهم مما في التوراة والإنجيل .وكان هذان الكتابان قد تضمنا ذكر رسالة الإسلام ونبوة محمد صلى الله عليه و سلم وتحريض بني إسرائيل على تصديقه والإيمان به ،لكنهم أبوا وعتوا عتوا كبيرا .وما فتئ اليهود والنصارى يزدادون على مرّ الزمن كفرا بدين الإسلام وبنبيه محمد صلى الله عليه و سلم ،فضلا عن حمالات الصدر والتضليل والتشويه لهذا الدين العظيم وعما يتفننون فيه من أساليب الإبادة والتدمير والتشريد للمسلمين .