قوله: ( إذ تصعدون ولا تلوم على أحد ) ( تصعدون ) بضم التاء وكسر العين ،من الإصعاد ،ومعناه الذهاب في الأرض والإبعاد فيه .يقال: صعد في الجبل وأصعد في الأرض .
وقوله: ( ولا تلون على أحد ) أي لا تلتفتون إلى أحد من شدة الهرب ،أو لا تعرجون ،فإن المعرج إلى الشيء يلوي إليه عنقه أو عنق دابته .فيكون المعنى أنكم توليتم صاعدين في الجبل مدبرين لا يقف أحد على أحد ولا ينتظره وذلك لفرط ما أصابكم من دهش وخوف{[613]} .
وقوله: ( والرسول يدعوكم في أخراكم ) أي آخركم .والمعنى أنه صلى الله عليه و سلم كان يدعوهم وهو واقف في آخرهم ؛لأن القوم بسبب الهزيمة قد تقدموه .
قال ابن كثير رحمه الله في تأويل قوله تعالى: ( والرسول يدعوكم في أخراكم ) أي وهو قد خلفتموه وراء ظهوركم يدعوكم إلى ترك الفرار من الأعداء وإلى الرجعة والعودة والكرة .قال السدي: لما اشتد المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم دخل بعضهم المدينة وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها .فجعل الرسول صلى الله عليه و سلم يدعو الناس:"إليّ عباد الله "{[614]} وقال ابن عباس وغيره: كان دعاء النبي صلى الله عليه و سلم:"أي عباد الله ارجعوا ".
قوله: ( فأنبئكم غما بغم ) أثابكم بمعنى جزاكم .وهو من الثواب ،وأصله كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله سواء كان خيرا أو شرا .بيد أنه بحسب العرف اختص لفظ الثواب بالخير .والغم في اللغة بمعنى التغطية والستر{[615]} والمراد به هنا الكرب .
أما الباء فتحتمل معنيين: المعنى الأول: أن تكون بمعنى المعارضة .كما يقال: هذا بهذا ،أي هذا عوض عن هذا ،وعلى هذا الوجه يكون المعنى أنكم لما أذقتم الرسول صلى الله عليه و سلم غما بسبب عصيانكم أمره ،فالله تعالى قد أذاقكم غما حصل لكم عقيب الانهزام والقتل .أي أن الله جزاكم من ذلك الغم بهذا الغم .
المعنى الثاني: أن تكون بمعنى على .أي جزاكم غما على غم أو جزاكم غمّاً بعد غم ،أو غمّا متصلا بغم ،فالغم الأول هو القتل والجراح ،والغم الثاني الإرجاف بقتل النبي صلى الله عليه و سلم إذا صاح به الشيطان .وقيل: الغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة .والثاني ما أصابهم من القتل والهزيمة{[616]} .
قوله: ( لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم ) اللام في لكيلا متعلقة بقوله: ( فأثابكم غما بغم ) فيكون المعنى: أن هذا الغم بعد الغم لكيلا تحزنوا على ما فات من الغنيمة ولا ما أصابكم من الهزيمة لتتمرنوا على تجرع الغموم واحتمال النوائب والمصائب .
قوله: ( والله خبير بما تعملون ) الله جل وعلا عالم بما يستكن في صدوركم من نوايا وقصود .وهو كذلك عالم بسائر أعمالكم من خير أو شر ،لا جرم أن هذه الحقيقة تفيض على النفس إحساسا غامرا بعظيم قدرة الله وتمام الشعور برقابته الدائمة التي تتجلى في سلطانه على القلوب .