قوله تعالى: ( وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) .
ذكر عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية قال: فقدت قطيفة حمراء يوم بدر مما أصيب من المشركين .فقال أناس: لعل النبي صلى الله عليه و سلم أخذها .فأنزل الله تعالى ( وما كان لنبي أن يغل ){[627]} وقوله ( يغل ) أي يخون ،من الغلول بمعنى الخيانة ،والمراد بها هنا من لغنيمة .وأصل الغلول أخذ الشيء خفية{[628]} .
وتأويل الآية أنه ما صح لنبي أن يخون شيئا من المغنم فيأخذه لنفسه من غير إطلاع أصحابه .وفي ذلك تنزيه للأنبياء عن الغلول .فإن النبوة والغلول لا يجتمعان لا جرم أن النبوة أعلى مراتب الشرف والجلال ،بل إنها أعلى المراتب الإنسانية في الدنيا والآخرة .فما يليق بنفس كريمة عالية فضلى أن تغل .وما يليق بأحد ولا طائفة من البشر أن تقدح في مقام النبوة المقدس الميمون فتتهمها بالغلول .
ولقد توعد الله الخائنين أهل الغلول بالعذاب الشديد يوم القيامة مما يدل على أن ذلك كبيرة من الكبائر .فقال سبحانه: ( ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ) أي يأتي الغال حاملا ما غله على ظهره وعنقه معذبا بحمله وثقله ،مرعوبا بصوت ما يحمله ،وهو تحيط به الفضيحة والعار على رؤوس الأشهاد .وفي فداحة الغلول وهول ما يجده الغال يوم القيامة روى الإمام أحمد عن أبي مالك الأشجعي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال:"أعظم الغلول عند الله ذراع من الأرض تجدون الرجلين جارين في الأرض- أو في الدار- فيقطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعا ،فإذا قطعه طوقه من سبع أرضين يوم القيامة ".
وروى أحمد عن المستور بن شداد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول:"من ولي لنا عملا وليس له منزل فليتخذ منزلا ،أو ليست له زوجة فليتزوج ،أو ليس له خادم فليتخذ خادما ،أو ليس له دابة فليتخذ دابة ،ومن أصاب شيئا سوى ذلك فهو غال ".
وروى أحمد أيضا عن أبي حميد الساعدي قل: استعمل رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فجاء قال: هذا لكم وهذا أهدي لي فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم على المنبر فقال:"ما بال العامل نبعثه على عمل فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي: أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا ؟والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته ،وإن بعيرا له رغاء ،أو بقرة لها خوار ،أو شاة تيعر "ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة{[629]} إبطيه ،ثم قال:"اللهم هل بلغت "ثلاثا .
وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:"ردوا الخياط والمخيط ،فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة "{[630]} .
ويستفاد من هذه الآية جملة أحكام ،منها: أن أخذ الطعام وأخذ علف الدابة أو ما تيسر به الحوافل في حال القتال جائز ،على أن يكون ذلك بقدر الحاجة .
ومنها: إذا غل الرجل في المغنم ووجد ما غل أخذ منه وعوقب تعزيرا .
ومنها: أن الغال له أن يرد جميع ما غل قبل أن يفترق الناس إن وجد السبيل إلى ذلك ،فإذا فعل ذلك كانت هذه توبة له وخروجا عن ذنبه .
ومنها: أن هدايا الولاة والقضاة والحكام غلول ،أي خيانة .وحكمه في الفضيحة في الآخرة حكم الغال{[631]} .
قوله: ( ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) أي تعطى كل نفس جزاء ما كسبت من خير أو شر عطاء وافيا غير منقوص .وهذه الآية تعم كل الكاسبين من خير أو شر .وهي تتضمن بمفهومها الغال على الأولى ؛لأن سياق الكلام هنا في الغلول .فما من غلول في المغنم وسائر وجوه الكسب الباطل والحرام إلا سيجزى مقارفة الغال ما يستحقه من الجزاء يوم القيامة .وحينئذ يجازي الله كل نفس بما كسبت من غير أن يحيق بأحد في ذلك ظلم .