قوله تعالى: ( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ) هذا إعلان مجاهر وتصريح مجلجل وظاهر لا شك فيه ولا غموض عن نفي اليهودية والنصرانية عن خليل الله إبراهيم ،فما كان هذا النبي عليه الصلاة والسلام تابعا لكلا الفريقين ؛لأنهم كانوا وما زالوا أهل شرك ،وهم بعيدون كل البعد عن الحنيفية المسلمة .الحنيفية القائمة على التوحيد الخالص لله .الحينفية التي تبرأ كل البراءة من وثنية اليهود والنصارى ،أما اليهود فقد عبدوا عزيرا فضلا عن عبادتهم للشهوات ،شهوة المال ،وشهوة التسلط وشهوة الكيد ،وشهوة الهوى بكل صوره وألوانه .
وكذلك النصارى فقد عبدوا المسيح وقالوا فيه من فرط المغالاة والشذوذ ما يثير النكر والاشمئزاز .
وقوله: ( ولكن كان حنيفا مسلما ) لكن حرف استدراك .والحنيف هو المائل عن العقائد الزائغة المنحرفة .أو المتحنف عن الشرك القاصد إلى التوحيد وهو من الحنف بالتحريك وهو يعني الاستقامة واعتزال عبادة الأصنام .ومنه الحنيفية وهي اتباع أمر الله والاستقامة على محجة الهدى{[487]} .
أما قوله: ( مسلما ) أي خاشعا لله بقليه متذللا له بجوارحه ،مذعنا لما فرض عليه .وهو من الاستسلام ،أي الانقياد لأوامر الله والامتثال له بالطاعة والخضوع{[488]} .
هكذا كان خليل الرحمن إبراهيم ،هذا النبي الأواه الحليم لا جرم أنه غاية في الحنيفية المستقيمة البعيدة أشد البعد عن كل صور الإشراك بالله ،ما بين عبادة لصنم أو بشر أو غيرهما من الكائنات وأشكال الهوى والشهوات .ولهذا قال سبحانه: ( وما كان من المشركين ) .
وربما يهرف حانق مارق أو مجادل خصيم بأن ما اعترضتم به على مقالة اليهود والنصارى في دعواهم أن إبراهيم كان منهم-ينسحب كذلك على الإسلام القائل ( ولكن كان حنيفا مسلما ) مع أن إبراهيم سابق لنبوة محمد صلى الله عليه و سلم بزمن بعيد !
والجواب عن ذلك أن المراد بالحنيف المسلم ما بيناه آنفا .وجملته أن إبراهيم كان على الحنيفية السمحة المبرأة من كل أدران الوثنية والشرك ،الحنيفية التي تعني الميل عن الشرك إلى الإسلام والثبات عليه .وأساس ذلك كله الإقرار الكامل لله بالعبودية وأنه وحده الإله المعبود الديان .