[ ما كان إبراهيم يهودياً] فلا يمكن أن يكون إبراهيم يهودياً ،لأنَّ اليهودية تحرّكت مسيرتها في مواقع الشرك ،وانحرفت عن خطّ الرسالة التي جاء بها موسى( ع ) ،[ ولا نصرانياً] إذ لا يُمكن أن يكون نصرانياً ،لأنَّ النصرانية انطلقت في تفاصيل وأجواء ابتعدت بها عن القواعد الصحيحة التي جاء بها عيسى ( ع ) ...[ ولكن كان حنيفاً مسلماً] ولكنَّه كان حنيفاً مائلاً إلى الحقّ عن الباطل ،مخلصاً للّه ،في كلّ ما يعنيه الإخلاص للّه من صفاء التوحيد في العقيدة والإسلام للّه في كلّ شيء ؛وذلك من خلال ما حدّثنا اللّه به في آية أخرى: [ إذ قال له ربُّهُ أسلِم قال أسلَمْتُ لربِّ العالمين * ووصَّى بها إبراهيمُ بنيه ويعقّوبُ يا بنيَّ إنَّ اللّه اصطفى لكُمُ الدِّينَ فلا تمُوتُنَّ إلاَّ وأنتم مُسلمُون] ( البقرة:131132 ) .ومنه انطلقت صفة المسلمين لكلِّ من أسلم وجهه وحياته للّه ،فاتبع أمر اللّه ونهيه في كلِّ شيء ،ولم يُشرك بعبادة ربِّه أحداً ؛وذلك هو قوله تعالى: [ ملَّةَ أبيكم إبراهيم هو سمَّاكُمُ المسلمين من قبلُ] ( الحج:78 ) .وبذلك كان انتماء إبراهيم الأصيل إلى الإسلام الحقّ الذي يمثِّل الخطّ العريض لكلِّ الديانات السَّماوية من قبله ومن بعده ،لأنَّها تدعو إلى عبادة اللّه والإسلام إليه وحده ...وهكذا كانت رسالة محمَّد ( ص ) إسلاماً للّه ،لأنَّها تمثِّل الدعوة الخالصة إلى التوحيد في كلِّ مجالات العقيدة والعاطفة والعمل ...
وربَّما كان قوله تعالى: [ وما كان من المشركين] إشارة إلى ما كان يدّعيه المشركون من عرب الجاهلية ،ولا سيّما من كان منهم في مكة من القرشيين ،أنَّهم على دين إبراهيم والدين الحنيف ،حتّى كان أهل الكتاب يسمّونهم بالحنفاء ،وبهذا اتخذت كلمة الحنفاء معنى مغايراً للمعنى الحقيقي ،فأصبحت تدل على الاتجاه الباطل الذي يميل فيه النّاس عن الحقّ إلى الباطل ،باعتبار أنَّ العرب كانوا يلتزمون «الحنفية الوثنية » ،فجاءت هذه الآية لتنفي هذه النسبة إلى إبراهيم ( ع ) ،فهو لم يكن يهودياً يحمل خطّه انحراف اليهودية ،ولم يكن نصرانياً يلتزم انحراف النصرانية ،ولم يكن مشركاً ينسجم مع طريقة أهل الشرك في عبادة الأصنام بحجّة أنَّها تقرّبهم إلى اللّه زلفى ،بل كان حنيفاً بالمعنى الأصيل لهذه الكلمة التي تعني في كلِّ مضمونها الاستقامة على طريق الحقّ في العقيدة ،والعمل بالميل عن خطّ الانحراف إلى خطّ الاستقامة ،وكان مسلماً بالمعنى الشامل للإسلام الذي يعني إسلام الفكر والقلب والحركة والحياة للّه في كلِّ أموره ...وهو الخطّ التوحيدي في العقيدة والعبادة والطاعة الذي يمثِّل إبراهيم ( ع ) عنوانه في كلِّ كلماته ومواقفه ومنطلقاته .