[ ها أنتم هؤلاء] يا أهل الكتاب [ حاججتم فيما لكم به علمٌ] مما تملكون علمه من دينكم من خلال ما قرأتموه في التوراة أو الإنجيل ،وهذا من حقّكم ،كما هو حقّ كلّ إنسان ينتمي إلى فكرٍ يملك علمه ليُجادل النّاس فيه .وربَّما كان هذا الكلام إشارة إلى الجدل الواقع بين اليهود والنصارى في تأكيد كلّ منهما عقيدته ونفي العقيدة الأخرى ،كما كان يفعله اليهود في إنكار أن يكون عيسى( ع ) ربّاً أو ابناً للّه ،أو ما كان يفعله النصارى من نفي امتداد اليهود إلى ما بعد السيِّد المسيح( ع ) .وربَّما تكون مسألة العلمهناتعبيراً عن الثقافة ،بعيداً عن فرضية الصواب ،باعتبار أنَّهم يملكون الجدال حوله من خلال ذلك .
[ فَلِمَ تُحاجُّون فيما ليس لكم به علمٌ] لأنَّه لا يمثِّل أيّة حقيقة دينية أو تاريخية .وهذا ما لا ينبغي للإنسان العاقل أن يفعله ،لأنَّه يؤدّي إلى التخبط في مواقع الجهل والابتعاد عن الحقيقة ،والاستغراق في متاهات الضلال .[ واللّه يعلمُ وأنتم لا تعلمون] فهو المحيط بكلّ شيء ،الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة ،فأرجعوا الأمر إليه في ما أنزل من وحي يتضمن الحقائق ويشير إلى خطّ اليقين ،أمّا أنتم ،فلا تملكون العلم إلاَّ من خلال ما يسّر لكم من سُبُله ،فلا تندفعوا في طريق لا تعرفون طبيعته ولا تبلغون مداه .
الآية في منهج الحوار:
ويتحرّك الحوار في استعراض المنهج الذي ينبغي للحوار أن يسير عليه ،فلا بُدَّ للمتحاورَيْن في أيّ موضوع ،من أن يكونا محيطَيْن به من جميع جوانبه ،لينطلق الحوار من منطلق الفكر ،فيصل بهما إلى النتيجة الحاسمة ،ويساعدهما على الهدوء في الكلمة ،والحكمة في الأسلوب ،والعمق في الفكرة ،فإنَّ ذلك هو سبيل العلماء الواعين للعلم ولرسالته ...أمّا إذا كان الطرفان لا يملكان المعرفة في ما يتحاوران به ،فإنَّ الموقف سيتحوّل لديهما إلى حوار بالشتائم والكلمات اللاذعة والاتهامات الفارغة التي يُحاول الضعيف أن يُغطي بها ضعفه ،ليربح القضية بالباطل إذا لم يتمكن من الحصول عليها بالحقّ ...وبذلك لن يؤدي الحوار إلى نتيجة طيّبة ،بل يؤديبدلاً من ذلكإلى المزيد من التعقيد والعداوة والخوض بالباطل .وعلى ضوء ذلك ،فلا بُدَّ للأجهزة أو القيادات المشرفة على حركة الدعوة إلى اللّه ،من أن تختار العناصر الجيِّدة التي تملك كفاءة الفكر والأسلوب والرؤية العميقة المنفتحة على الواقع ،لتستطيع أن تربح الموقف لصالح الإسلام من موقع قوّة الفكر والحجّة وعمق النظرة ،فتحقّق للإسلام هدفه في الوصول إلى قناعات النّاس من جهة ،وتُعطي للدعوة الوجه القويّ المنفتح من خلال ما تبرز به للنّاس من سماحة الحوار وقوّته ...
ولعلّ ذلك هو السب في ما كان يقوم به الإمام جعفر الصادق ( ع ) من نهيٍ بعض أصحابه عن الكلام ،ودعوة بعض آخرين إلى الخوض فيه ،لضعف أولئك وقوّة هؤلاء ،فإذا خاض الضعيف الحوار ،كان ضعفه حجّة للمبطل على المحقّ ،فيؤدي ذلك إلى ضعف موقف الحقّ وانهزام المؤمن نفسياً أمام ذلك .أمّا إذا خاض القويّ الموقف ،فإنَّه يُعطي الحجّة من موقع الحقّ ،ويمنح الحقّ قوّة الموقف .
وقد لا يكفيفي هذا المنهجأن يملك الداعية قوّة الحجّة في سبيل الجدل ولو بالباطل ،فإنَّ القضية ليست قضية ربح الساحة على كلّ حال ؛بل لا بُدَّ من أن يملك قوّة الحجّة بالحقّ ،لأنَّ الهدف هو الوصول إلى خطّ الهدى في حياة الإنسان ،وذلك بأن نقوده إلى الموقف الحقّ في العقيدة والشريعة والحياة ...
وهذا ما دعا الإمام جعفر الصادق ( ع ) إلى نقد أحد أصحابه الذي كان يُجادل خصمه بالحقّ والباطلوالإمام يستمع إليهفقال له: «يمزج الحقّ بالباطل ،وقليل من الحقّ يكفي عن كثير من الباطل » .
وقد خاطب اللّه أهل الكتابفي هذا الخطّ المنهجيبأنَّهم انحرفوا عن الخطّ الصحيح في نهاية المطاف ،فقد كانوا يحاجّون في ما يملكون أمر المعرفة به مما اطلعوا عليه من التوراة أو الإنجيل ،وليس في ذلك أيّ بأس ،ولكنَّ الأمر تطوّر عندهم في خطٍّ منحرف إلى أن بدأوا يجادلون في ما لا يملكون العلم به ،إمّا لأنَّه لا يخضع لأيّ أساس ،ولا يقف مع أيّة حقيقة ،وإمّا لأنَّهم لا يملكون أمر الإحاطة به والوصول إلى نهاياته .وهذا أمرٌ لا يسمح به منطق العلم والحوار ،فإنَّ عليهم إذا لم يحيطوا بعلم شيء ما ،أن يحاولوا الوصول إليه بالمعرفة من خلال وحي اللّه ،فإنَّ اللّه يعلم بحقائق الأشياء ،وأنتم لا تعلمون إلاَّ البسيط الذي علّمكم إياه ...
وهذا ما ينبغي لنا أن نخاطب به الآخرين من خصوم الإسلام الذين يوجهون إليه الاتهامات الباطلة من غير علم ،ويثيرون الشبهات حوله من موقع الجهل ،لنقودهمبمختلف أساليب الإنكار والإحراج التي تكشف عن جهلهم ،وتخبّطهم بالباطلإلى السير في خطّ المعرفة الإسلامية من مصادرها الأصيلة ،ولندفعهم إلى الاستماع إلى الحجّة والبرهان بأقرب طريق ..
ولا بُدَّ لناإلى جانب ذلكمن الالتفات إلى العاملين في سبيل اللّه ،وتوجيههم إلى دراسة مبادئ خصومهم ،بالإضافة إلى مبادئ الإسلام ،لينطلقوا في الحوار عن علمٍ بكلّ مجالات الأخذ والردّ ،لئلا يخوضوا في ما لا علم لهم به ،كما أشرنا إلى ذلك في صدر الحديث .