أسلوب التأنيب الهادئ:
وهذا أسلوبٌ آخر في حوار القرآن مع أهل الكتاب ،يستهدف كشف الزيف الذي كانوا يُمارسونه في تضليل النّاس باستغلال الصفة الروحية الكبيرة والموقع القدسيّ العظيم لبعض الشخصيات النبوية ،فيسبغون عليه انتماءهم الديني ليوحوا للبسطاء بقداسة مواقعهم ،وسلامة طروحاتهم الفكرية والعملية ،من أجل كسب هؤلاء البسطاء إلى صفوفهم وتحويلهم عن السير في خطِّ الإسلام .وقد أراد القرآن الكريم أن يواجههم بأسلوب التأنيب الهادئ الوديع الذي يطرح التساؤل في أسلوب الاستفهام الإنكاري ،كأسلوب لمواجهة الإنسان نفسه بالحقيقة في تسجيل نقطة هنا تدفع نحو التفكير ،ونقطة هناك تدفع نحو التأمّل من خلال إثارة المنهج في ملاحقة الحقيقة ،وتقرير المبدأ في مواجهة الواقع .وهذا ما نحاول أن نتلمسه في دراستنا لهذه الآيات .
فقد طرح أهل الكتاب شخصية إبراهيمالنبيّالذي يُعتبر من الشخصيّات النبويّة المحترمة لدى كافة النّاس ،بما فيهم مشركي مكة ،الذين ينتسبون إليه باعتبار أنَّ قريش من ولد إسماعيل ،وكان لهذا الاحترام دوره الكبير في ارتباط النّاس بالفكر أو الدين الذي ينتسب إليه هذا النبيّ العظيم .ولهذا حدث التنافس في نسبته إلى هذا الفريق أو ذاك من الديانات المطروحة في الساحة الدينية ،فقد كان اليهود يقولون إنَّه يهودي ،ويريدون من خلال ذلك أن يدفعوا النّاس إلى اعتناق اليهودية ،على أساس اعتناق إبراهيم لها .وكان النصارى يقولون إنَّه نصراني ،ليقودوا النّاس إلى النصرانية من خلال ارتباطه بها .ولم تكن القضية لدى الطرفين مطروحة للمناقشة حتّى يفيض النّاس فيها بالحوار والنزاع ،بل كانت مطروحة للإيمان الأعمى الذي يقبل كلّ شيء من دون معارضة ،انطلاقاً من الفكرة القائلة بأنَّ الإيمان فوق العقل .
وجاء القرآن ليفضح اللعبة ويضع النقاط على الحروف ،فطرح القضية للمناقشة في جانبها التاريخي الزمني ،ودعاهم إلى استنطاق عقولهم في ذلك ،فإنَّ اليهودية انطلقت من التوراة التي أنزلت على موسى ( ع ) بعد وقت طويل من عهد إبراهيم ،كما أنَّ النصرانية استندت إلى الإنجيل المنزل على عيسى ( ع ) بعد ذلك الزمن بوقت بعيد جداً ؛فكيف ينتسب إبراهيم إلى هذا أو ذاك في الوقت الذي يسبق زمانه زمانهما ؟!وكيف يمكن أن ينتسب السابق إلى اللاحق ،في ما يوحي به العقل من موازين ومقاييس ؟!
[ يا أهل الكتاب لِمَ تحاجُّون في إبراهيم] لتقدّموه كشخصية يهودية أو نصرانية تجتذب النّاس إليكم من خلال ما يتميّز به من تقديس واحترام والتزام بنبوّته في وجدان النّاس ،[ وما أُنزِلَتِ التوراة] التي ينتسب اليهود إليها في دينهم ،[ والإنجيل] الذي ينتسب إليه النصارى في التزامهم الديني ،[ إلاَّ من بعده] فهناك فاصلٌ زمني كبير بين إبراهيم وموسى وعيسى( ع ) ،فكيف يمكن انتسابه إليهما ،[ أفلا تعقِلُونَ] ذلك ،لتتحرّكوا في دائرة تقديم الحجّة من منطق العقل الذي يضع الأشياء في مواضعها الطبيعية من الزمان والمكان عندما يدخل في المقارنة بين الأشخاص والأشياء ؟!وهذه إشارة إلى أنَّ القرآن الكريم يقدّم العقل كأساس في مجال الجدال بين النّاس والاحتجاج للعقائد والأفكار ،فلا ينطلق الموضوع الذي يقع محلاً للنزاع من حالة عاطفية أو مزاجية أو استعراضية بقصد التأثير على الجوّ النفسي بعيداً عن المحاكمة العقلية .
الآية في حركة الواقع:
ونلتقيفي خطّ هذا الأسلوببالكلمات التي تُثار أمام البسطاء من خلال ما يطرحه الكفر والانحراف من مبادئ ،كالشيوعية والاشتراكية والديمقراطية وغيرها من المبادئ الفلسفية والاقتصادية والسياسية ،فيُحاولون الإيحاء للمسلمين البسطاء بالتقاء الإسلام بها وانتمائه إليها في مفاهيمه وتشريعاته ،من أجل أن يضلّلوهم ويسدّوا عليهم طريق الاعتراض والمناقشة .وقد يضيفون إلى ذلك الحديث عن انتماء الإمام عليّ( ع ) وأبي ذر الغفاري إلى الاشتراكية ،لأنَّهما كانا ينطلقان في كلماتهما من موقع المواجهة للواقع الاقتصادي الاستغلالي الفاسد ،مما يُحاول البعض تفسيره بما توحي به هذه المبادئ من شعارات وأفكار .ولكن القضية لا بُدَّ من أن تُعالج بما عالج به القرآن الكريم قصة مزاعم أهل الكتاب في قضية إبراهيم( ع ) ،بالتأكيد على الفرق الكبير في الفاصل الزمني بين الإسلام وشخصياته ،وبين مبتدعي هذه المبادئ ،ثُمَّ بمحاولة إيضاح المفاهيم الإسلامية والاقتصادية والاجتماعية بالمقارنة مع مبادئ الكفر والانحراف المتمثّلة في تلك المبادئ ،والإعلان لهم بأنَّ عليّاً وأبا ذر لم يطرحا في معارضتهما للواقع الفاسد إلاَّ المنهج الإسلامي الذي يُعالج المشكلة الواقعية بالحلّ الإسلامي لا بغيره .
وهكذا نجد في هذه الآية الكريمة خطّاً إسلامياً ممتداً في حياتنا الرسالية في مجال الدعوة والعمل ،وحركة الوعي المنفتح على الواقع والإنسان .