مناسبة النزول:
قيل في سبب النزول أقوال: ( الأول ): إنَّها نزلت في نصارى نجران ،( الثاني ): إنَّها نزلت في يهود المدينة ،( الثالث ): إنَّها نزلت في الفريقين من أهل الكتاب ؛وربَّما كان هذا أولى لشموله لكلّ الذين يلتقي الإسلام معهم في القاعدة التوحيدية من دون اختصاصٍ بفريق دون فريق .
منهج الحوار والعمل:
في هذه الآية حديث مع أهل الكتاب في أسلوب جديد من أساليب الحوار التي أراد اللّه للنبيّ محمَّد ( ص ) في ما خاطبه به في وحيه ،أن يواجه به هؤلاء الذين يريد الإسلام الوصول معهم إلى نقطة اللقاء على أساس القناعة في الفكرة الواحدة ،أو التعايش في موقف التفاهم وإقامة الحجّة الواضحة التي لا ريب فيها ولا التباس .
ولعلّ قيمة هذه الآية في ما تعالج من أسلوب ،أنَّها تمثِّل للإنسان الداعية منهجاً للحوار والعمل في كلِّ مواقفه العملية في الحياة ،فإنَّ القرآن عندما يطرح أيّة قضية في أيّ مجال من مجالات الحوار مع الآخرين ،سواء أكانوا من المشركين أم كانوا من أهل الكتاب ،لا يتحدّث عن التاريخ لمجرّد حكاية التاريخ ،بل يريد أن يفسح المجال للمفاهيم العامّة الحيّة كي تتحرّك في الساحة من خلال النموذج الحي ،الذي ينقل إلينا الفكرة والتجربة معاً ،لتكون الفكرة جاهزة للحياة وللحركة في ضوء حركتها الفاعلة في التاريخ .وتلك هي قصة التاريخ في الإسلام في سلبياته وإيجابيّاته في ما نأخذ منه من عبرة للحاضر على أساس حركة الواقع في الماضي ،بعيداً عن كلّ لهو بالقصة ،أو استرخاء مع الحدث الغارق في ضباب الماضي .
والآن ،نحن مع الآية في هذا الأسلوب الجديد من منهج الحوار .
إنَّها تطرح مع أهل الكتاب فكرة اللقاء على قاعدة مشتركة ،لنتمكّن من خلال ذلك من اكتشاف وجود لغة وقناعات مشتركة ومشاعر قريبة إلى بعضها البعض ،ما يوحي بوجود أساس واقعي للتفاهم ،لأنَّ القضايا المسلّمة لدى كلّ فريق يمكن أن تتدخل لتحسم الخلاف في القضايا المتنازع فيها ،فهي تدعونا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ،فنحن نؤمن بالوحدانية كما تؤمنون ،وبذلك نلتقي معاً في نطاق عبادة اللّه الواحد ،فلا نشرك في العقيدة ولا نشرك في العبادة .وعلى ضوء ذلك ،نلتقي على عدم اتخاذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللّه ،لأنَّ ذلك يعني الشرك للّه في خلقه ،فلا مجال لأن نحلّ ما حرّمه اللّه علينا ،أو نحرّم ما أحلّه اللّه لنا ،إذا أمرنا هؤلاء بذلك ،فإنَّ ذلك يعني الخضوع والعبادة اللذين يؤديان إلى الشرك في نهاية المطاف .
وهذا ما استوحاه أحد أئمة أهل البيت ( ع ) في هذه الفقرة في ما يروى عنه في الجواب عن سؤال قُدِّم إليه ،وخلاصته: إنَّ اليهود لا يتخذون بعضهم بعضاً أرباباً من دون اللّه ،فكيف يطرح عليهم هذه الصيغة التي تشعر بوجود شيء لديهم من هذا القبيل ،فيريد اللّه أن يخلصهم منه ويفرض عليهم منهجه الحقّ ؟وكان الجواب يتلخص في التأكيد على هذا الجانب ،فإنَّهم أحلّوا لهم حراماً وحرّموا حلالاً فاتبعوهم في ذلك ،فكانت تلك ربوبية عملية .وهذا ما نواجهه في ساحة العمل المنحرف ،في التزامنا بما تصدره بعض المؤسسات أو الحكومات من قوانين تتنافى مع قوانين الإسلام ومفاهيمه ،فإنَّ ذلك يمثِّل إشراكاً في جانب العمل وإن لم يكن إشراكاً في خطّ العقيدة .
الدعوة إلى مواطن اللقاء في الحوار والعمل:
[ قل يا أهل الكتاب] الذي أنزله اللّه ليكون هدىً ونوراً للنّاس يقفون عند مفاهيمه ،وينطلقون منه ويتحرّكون في خطوطه ويرجعون إليه ،ويلتقون عليه إذا تنازعوا ،ليكون المرجع لهم في كلّ ذلك ...فنحن نؤمن به كما تؤمنون به ،لأنَّنا نؤمن بالكتاب كلّه ،فلا نفرّق بين كتاب وكتاب باعتبار أنَّه كلمة اللّه ،ولا بين رسول ورسول لأنَّ الجميع رسل اللّه [ تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم] لتكون قاعدة اللقاء على الأرض الفكرية العقيدية المشتركة التي نلتزمها معاً ،على أساس وحدة المبدأ من دون الدخول في التفاصيل التي تثير النزاع في الجزئيات هنا وهناك .وإذا شئتم المبدأ العام في اللقاء ،فإنَّه قد يُحدث جوّاً نفسياً إيجابياً ملائماً ،يفسح المجال للانفتاح على الآخر من موقع الإيحاء بأنَّ هناك فرصةً للقاء في ما يختلف فيه ،على أساس واقعية اللقاء من خلال ما اتفق عليه ،ليكون الحوار من مواقع اللقاء أقرب إلى حل المشكلة الفكرية والعملية من الانطلاق من مواقع الاختلاف ،[ ألا نعبد إلاَّ اللّه] فهذه هي القاعدة المشتركة في خطّ عبادة اللّه الواحد بعيداً عن عبادة أيّ موجود آخر ،لننطلق في كلّ طقوسنا وعاداتنا وتقاليدنا من ذلك ،فلا نأخذ بأيّة وسيلة من وسائل التعبير عن العادة مما يشير إلى الشرك أو يلتقي به مهما كانت ،[ ولا نشرك به شيئاً] في الفكر والعمل ،بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ،وهذه هي العقيدة التوحيدية التي توحي بأنَّنا نتوحد باللّه ،لأنَّه ربّنا جميعاً ،بقطع النظرفي البدايةعن خلافاتنا في شخصية الإله ،وإذا ما كان تجسّد في عيسى ،وغير ذلك من الخلافات الجزئية في العناوين التفصيلية للعقيدة ،[ ولا يتَّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللّه] فلا يكون الإنسان ربّاً للإنسان مهما علا شأنه ،وتضخمت قوّته ،وامتدت سلطته ...لأنَّ ذلك كلّه لا يرفعه إلى درجة الربوبية ،فهو مخلوق من مخلوقات اللّه ،كما أنَّ ما يملكه من مالٍ وجاهٍ وقوّةٍ وسلطان ،هو نعمة من نعم اللّه .
وفي ضوء ذلك ،لا مجال لأيّ خضوع لذاته ،ولا طاعة لأوامره ونواهيه ،ولا التزام بخطّه في حركة الحياة والإنسان على مستوى الانتماء إليه في ذلك كلّه ،لأنَّه يمثِّل الانحراف عن الحقيقة التوحيدية ،التي تؤكّد وحدانية اللّه في الربوبية ووحدة الإنسان في عبوديته للّه ،وفي مساواة كلّ تنوعاته على صعيد الإنسانية ؛فليست هناك إنسانية في الدرجة الفوقية وأخرى في الدرجة التحتية من حيث الذات ،بل إنَّ التمايز ينطلق من الصفات المكتسبة أخلاقاً وفكراً وعملاً .
[ فإن تولَّوا] وأعرضوا عن هذا الخطّ المشترك ،ولم ينسجموا مع هذه الروح التي تجمع ولا تفرّق ،وتُقرِّب ولا تبعِّد ؛فلا تتشنّج منهم ،ولا تحقد عليهم ،بل حاول أن تواجههم بالموقف النفسي الحاسم ،[ فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون] وذلك بالإعلان عن الموقف الحقّ ،الذي يحمّلهم المسؤولية من خلال تحميلهم مسؤولية الشهادة أمام اللّه ،بأنَّ النبيّ وأتباعه مسلمون في كلّ ما يعتقدون وما يقولون وما يفعلون ،فلم ينطلقوا من عقدة الذات أو الحقد ،أو اللعب بالكلمات والمواقف ...بل انطلقوا في هذا الموقف الصلب من موقع إسلامهم للّه في الفكر والقول والعمل ...هذا الإسلام الذي يفتح قلوبهم على الحياة وعلى الإنسان من خلال انفتاحه على اللّه سبحانه ...وربَّما كانت قيمة هذا الأسلوب في الإعلان عن الموقف بعد إقامة الحجّة على الطرف الآخر ،هو الإيحاء بقوّة الموقف ،وعدم الانهزام أمام الحالات السلبية أو الأوضاع الاستعراضية التي يقوم بها الطرف الآخر من أجل تحطيم أعصاب الداعين إلى اللّه والعاملين في سبيله .
وهكذا يُعطي الإسلام للحوار خاتمته من دون أن يُغلق بابه أو يسيء إلى الآخرين ،بل كلّ ما هناك أنَّه يحاول التأكيد لهم بأنَّ إعراضهم لا يغيّر من الموقف شيئاً ،لأنَّه لم ينطلق من خلال قناعات الآخرين وتشجيعهم ،بل من داخل القناعة الذاتية المرتكزة على وضوح الرؤية ،ما يجعل من استمراره نقطة تحدٍّ حاسمة .وفي ضوء ما قلنا آنفاً ،ليس هذا الطرح في أسلوب الحوار منطلقاً من خصوصية أهل الكتاب ،بل هو مستمدٌّ من المنهج العام للأسلوب الإسلامي الذي يؤكّد على نقاط اللقاء في رحلة الوصول إلى الحقيقة ،ولا يؤكّد على نقاط الخلاف إلاَّ في نهاية المطاف .
الأسلوب والممارسة المعاصرة:
وعلى هذا الأساس ،فلا بُدَّ للدعاة إلى اللّه في حركتهم نحو الهدف الكبير من الدعوة إلى اللّه في كلِّ زمانٍ ومكان ،وذلك بأن يتلمسوا بأيديهم وأفكارهم المجالات المشتركة في العقيدة والأسلوب والحياة التي تربط المسلم بالآخرين وتربطهم به ،لتُقرّبهم إليه ،ولتوحي لهم بأنَّ هناك مرحلةً من الطريق يمكن أن تمثِّل وحدة السُبُل في المرحلة الأولى أو الثانية ،فإنَّ ذلك كفيل بإلغاء الكثير من التعقيدات ،وتجميد الكثير من الحساسيات ،وتقريب الكثير من الأفكار ...حتّى إذا انتهى الأمر إلى نقطة الافتراق ،كانت الطريق ممهّدة أمام الطرفين للوصول إليها كمقدّمة للسير عليها من موقع القناعات المشتركة التي تصنع الأرض المشتركة ...
ولعلّ من الضروري أن يتحرّك العاملون في هذا الاتجاه ،على أساس صنع شخصيتهم الإسلامية ،بحيث تلتقي المواقف لديهم من خلال الطابع الذي يميّز شخصيتهم ،لا كحالة طارئة يمكن أن تأتي وتزول من دون قاعدة ثابتة .فيتحرّك المسلم في هذا الجوّ ويُمارسه مع اختلاف الأديان الموجودة في الساحة الدينية ،واختلاف المذاهب التي تعيش في الساحة الإسلامية ،واختلاف المبادئ والأفكار السياسية والاجتماعية والفلسفية في الساحة الفكرية العامّة ،ليصل إلى النتائج الحاسمة بأفضل طريق وأروع أسلوب ...
وكمثالٍ على ذلك خلافات الساحة الإسلامية ،كما في الخلافات بين السنّة والشيعة ،فقد لا يكون من الحكمة أن نبادر إلى طرح قضايا الاختلاف بينهما في بداية الحوار ،سواء ما يتعلّق منها بتفاصيل العقيدة ،أو بموضوع الخلافة ،أو بمفردات الشريعة ،بل علينا أن نعمل على طرح موارد الوفاق ،لأنَّنا إذا اتبعنا الأسلوب الأول ،فإنَّنا نوحي إلى الطرف الآخر بأنَّ الموقف هو موقف صراع يبحث فيه كلّ طرف عن أدواته التي يُحارب بها الطرف الآخر ،أو عن الكلمات والمواقف التي يُحاول أن يُسجّل من خلالها نقطة على حساب الفريق الثاني ،فتكون الروح التي تحكم الساحة هي روح المعركة الحادّة .أمّا إذا اتبعنا الأسلوب الآخر ،بأن آثرنا القضايا المتعلّقة بأسس العقيدة والشريعة ،وأكّدنا عليها في استعراض شامل يستوعب أكثر هذه الجوانب ،فإنَّنا سنعيش الجوّ الروحي الواقعي الذي ننفتح من خلال على القاعدة الإسلامية التي نقف عليها من خلال الأسس التي ترتكز عليها القاعدة ،مع إثارة الأجواء الروحية التي تفتح أمام الإنسان آفاق التَّقوى ،وتحريك الأجواء الحميمة التي تثير المشاعر الإنسانية بالعاطفة ...ما يحقّق للموقف مزيداً من المرونة والشعور بالمسؤوليّة ،فيُساعد على الوصول إلى القناعة الموحّدة أو المتقاربة ،لأنَّ هذا الأسلوب يجعل القضية سائرةً في الاتجاه الفكري الذي يلاحق أدوات الفكر وروحياته وأساليبه ،ولا يجعلها سائرة في الاتجاه الانفعالي الذي يعتمد على عناصر الإثارة في المشاعر والأفكار والكلمات ...وبذلك نبتعد عن أجواء التعصب الذي يتجمّد فيه الإنسان أمام قناعاته ،ولا يتحرّك خطوةً واحدة إلى الأمام في مجال المناقشة والحوار ،بل يعمل على المحافظة بكلِّ ما في طاقته على مواقعه الفكرية والعملية ،بروح متزمّتةٍ حاقدةٍ .ويمكننا في هذا الاتجاه أن نلتقي بالأساليب الهادئة المتزنة التي تحتفظ بأفكارها من موقع الانفتاح على الأفكار الأخرى ومناقشتها وتحصيل القناعات من خلال ذلك كلّه .