{ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد غلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضكم بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون64 يا اهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون65 ها انتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وانتم لا تعلمون66}
ذكر سبحانه وتعالى فيما سبق مريم البتول ،وخبر ابنها عيسى الذي رفعه الله مكانا عليا ،ثم ذكر سبحانه وتعالى الآيات الكبرى التي أجراها على يد عيسى عليه السلام لإثبات رسالته ،وتوثيق دعوته ،ثم آمن به الحواريون ،وكفر به الأكثرون ،مما يدل على ان المعجزة لا تحمل على الإيمان حملا ،ولكنها تنير السبيل اما طالبي الحق الذين لا يبغونها عوجا ؛ثم أشار سبحانه إلى انحراف الذين جاءوا بعد عيسى وادعوا انهم اتبعوه ،وما اتبعوه في شئ ؛فقد ادعوا انه إله أو ابن إله ،وليس إلا عبد الله ورسوله ،وقد اعتمدوا هواهم على انه خلق من غير أب ،فأبطل سبحانه قياسهم بقياس أدق وأقوى إنتاجا ،وهو ان آدم خلق من غير أب وأم فكان أولى ان يعبد ،إن كان قياسهم سليما ، ولكنه غير سليم .
ثم امر سبحانه وتعالى ان يخاطب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم نصارى عصره بما يكشف خبيئة نفوسهم ،وهي انهم لا يؤمنون بشئ إيمانا صادقا ،ولكنهم يمارون ،وما امره سبحانه به هو ان يبتهل هو وهم ،فيجعلوا لعنة الله على الكاذبين ،فلم يدخلوا في تلك المبارزة النفسية التي يبارز فيها الحق اليقين الثابت الباطل المتردد المتحير .
وفي هذه الآيات ينتقل سبحانه وتعالى من الخصوص إلى العموم ،فيخاطب اهل الكتاب من نصارى ويهود على لسان نبيه ،يدعوهم جميعا إلى الحق الذي يتساوى عنده الجميع ،فقال تعالى:
{ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم}النداء هنا لهل الكتاب عامة ،لا لطائفة خاصة منهم ؛فهو يشمل اليهود والنصارى جميعا ،لا فرق بين طائفة منهم وطائفة ،وكان النداء في هذا عاما ؛لن العيب عام فيهم ،والدواء واحد ؛فلوحدة الداء ووحدة الدواء كان النداء عاما ؛ذلك ان عيبهم هو التعصب لما عندهم تعصبا أعماهم عن الحق عند غيرهم ،فهم يظنون انهم وحدهم أهل علم النبوة لا ينزل على غيرهم ولا يدينون به لسواهم ،فهم يزعمون انهم أبناء الله وأحباؤه ،وكل يتعصب لما عنده ،فاليهود يقولون:ليست النصارى على شئ ،والنصارى يقولون:ليست اليهود على شئ ،وكلاهما يقولون:ليس غيرنا على شئ ،والدواء واحد أيضا ،وهو طلب الحق لذات الحق من غير إذعان لهوى ،ولا إفراط في العصبية ،وحتى لا تؤدى إلى الانحراف .
وناداهم سبحانه:ب"أهل الكتاب"مع انهم حرفوا فيه الكلم عن مواضعه ،وانحرفوا عن مبادئه ، وفرقوا في أحكامه ،وتفرقوا في فهمه ؛والسبب في هذا النداء هو اولا توبيخهم على ما كان منهم ؛ لأن علمهم بالكتاب كان يوجب عليهم الإذعان للحق بدل التفرق فيه ،{ وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم . . .14}[ الشورى] ثم هناد سبب آخر ،وهو ان علمهم بالكتاب في الجملة يجعل الاحتكام إلى ما بقي منه عندهم كافيا لإذعانهم إن كانت عندهم أثارة من إيمان بالحق وطلب له مع ما هم فيه من تعصب .
ولقد أمر الله نبيه بأن يدعوهم بقوله:{ كلمة سواء بيننا وبينكم}أي كلمة هي مستوية بيننا وبينكم ،أي فيها إنصاف لنا ولكم ،ونلتقي فيها معكم ،وتلتقون عندها عن طلبتموها ،وكلمة سواء تطلق بمعنى العدل والنصفة ،وقد قال زهير بن أبي سلمى:
أروني خطة لا ضيم فيهايسوي بيننا فيها السواء
فالسواء هنا هو العدل ،واصل السوي الاستواء ،وإذا فتحت السين منها صارت سواء ،ولقد قال تعالى:{. . .مكانا سوى58}[ طه] أي مكانا مستويا .
والمؤدى ان الله سبحانه وتعالى أمر نبيه ان يدعوهم إلى كلمة يستوي فيها النبي معهم ،وكان ينبغي ان يستووا بالنسبة لها معه ،وتلك الكلمة ،او تلك الحقيقة المقررة الثابتة في كل الكتب السماوية التي لا يفترق فيها كتاب عن كتاب هي ما ذكره سبحانه وتعالى بقوله:
{ ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله}فهذه الكلمة التي يستوي فيها الإسلام مع الأديان التي سبقته هي التوحيد ،والتوحيد بشمول معناه يشمل التوحيد في العبودية ،والتوحيد في الربوبية ،والتوحيد في العبودية ألا يعبد إلا الله سبحانه وتعالى ،وهذا ما بينه سبحانه وتعالى بقوله على لسان نبيه:{ ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا} .فلا يصح ان يشرك مع الله في الألوهية حجر ولا بشر ،فلا يقال:فلان إله ،ولا ابن إله ولا عنصر ألوهية قط في حجر .
أما التوحيد في الربوبية ،فهو ما أشار إليه سبحانه بقوله تعالى:{ ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله}أي لا يتخذ احد من البشر في مقام الرب ،بأن يكون له فضل في التكوين أو الإنشاء او التأخير في الخلق بأي نوع من أنواع التأثير ،فإن هذا كله من عمل الرب ،والله سبحانه وتعالى هو رب العالمين وحده ،ولا رب سواه ،فلا مؤثر في الكون ولا في الأشخاص ،ولا في الأشياء سواه ، فلا أثر لحجر ولا لبشر كائنا من كان هذا البشر .
وهناك معنى آخر للربوبية يدخل في مضمونها ،وهو ان يكون الشرع كله لله تعالى ،فلا يتكلم عن الله احد إلا نبي يوحى إليه ،والجميع بعد ذلك امام الشرع سواء ،إلا ان يكون فهم متميز متفهم متعرف ،ومن ادعى انه يتكلم عن الله باسم الله من غير وحي يعتمد عليه ،فقد ربا يؤخذ عنه ؛ولذلك عبر القرآن عن علماء النصارى واليهود الذين ادعوا ان قولهم دين يتبع ،وتقاليد تؤثر ،بأنهم قد اتخذوهم أربابا من دون الله ،فقال تعالى:{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله . . . 31} [ التوبة]ذلك بأنهم جعلوا لهم الحق في ان يشرعوا باسم الله ما لم يشرعه الله ،وان يخالفوا ما امر الله سبحانه وتعالى ،فهم جعلوهم في مقام الرب جل جلاله ،ولقد روى عندما نزل قوله تعالى:{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله}قال عدي بن حاتم:ما كنا يا رسول الله !فقال الرسول عليه السلام:"أليسوا كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذوا بقولهم ؟"قال:بلى . قال النبي صلى الله عليه وسلم:"هو ذاك"{[506]} .
وعن بعض التابعين أنه قال:لا أبالي أطعت مخلوقا في معصية الخالق أو صليت لغير القبلة ! ! فكانت التسوية كاملة بين الأخذ في دين الله بغير ما انزل الله ،والخروج عن الإسلام الذي رمز إليه ذلك التابعي الجليل ،وهو ألا يكون من اهل القبلة .
عرض النبي بأمر الله تعالى ذلك المر الذي يكون فيه نصفة له{[507]} ولهم ،وكانت الدعوة إلى اخذ دين الله من ينبوعه الصافي فيهما فائدتان:إحداهما:ألا يتزيدوا على ما امر الله تعالى وما نهى عنه ؛ والثانية:أن أولئك المجادلين هم الذين يبثون في نفوس أتباعهم التعصب العمى ،محافظة على سلطانهم ان يزول ؛فكانوا في زعامتهم بمنزلة زعماء قريش وأشباههم من انهم خشوا على سلطانهم من أتباع النبي الكريم صلى اله عليه وسلم .
وإذا كان قد دعاهم إلى هذا الإنصاف وإلى ترك التعصب جانبا ،وعدم الخضوع لأسبابه ،فإن حال الذين يخاطبهم إحدى حالين:غما ان يخلصوا في طلب الحق ،ويجيبوا داعية ،وتلك خير الخصلتين ، وإما ان لا يجيبوا داعية وتلك هي السوءة ،فإن كانت الأولى فتلك هداية الله ،وإن كانت الثانية فإن الله تعالى قد كتب عليهم الشقوة ،ولا سبيل لن يدخل النور قلوبهم ،فإن من طلب منه الإنصاف فأعرض عنه فلا سبيل إلى هدايته ،والجدل معه لا يجدي ؛ولذا قال سبحانه وتعالى:{ إن تولوا فقولوا اشهدوا بانا مسلمون}:
أي فإن اعرضوا ونأوا بجانبهم عن إجابة داعي الإنصاف ،والدعوة بالتي هي أحسن فلا تجادلوهم ولا تحاجوهم ،فإن الجدل مع من لم يجب داعي العدالة لا يزيده إلا لجاجة وعنادا ؛وإن الحقائق تتبعثر على ألسنة المتجادلين ،ويتبدد رونقها ،ويذهب بهاؤها ،وتفقد النفس عند الجدل الإيمان بالحقائق والإذعان لها ،بل أمرهم الله تعالى بقوله:{ فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}أي يقول النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين لأولئك الذين مردوا على الجدال وبعثرة الحقائق في حومة الجدل:اشهدوا بأنا مسلمون ،مذعنون لطلب الحق والإنصاف ،فلم تجيبوا ،والآن ننصفكم مرة أخرى بان نشهدكم بأننا مخلصون في طلب الحق مذعنون له ؛ومن جانبنا ؛فإن أذعنتم مثلنا فنعما هي ،وغن لم تذعنوا فلنا ديننا ،ولكم دينكم ،والله يحكم بيننا وهو خير الحاكمين .وإن إعلان الإذعان للحق من جانب المؤمنين فيه دعوة للحق بإعلان المثل الواضح البين السامي ،وهو يؤثر في الدعوة إلى الحق أكثر من الجدل ،إذ يكون فيه ذكرى لمن له قلب او ألقى السمع وهو شهيد .وإن الجدل يثير غبارا يجعل الوصول إلى الحق عسيرا وسط عجاجة المتجادلين .
وإن هذه الآية الكريمة صورة سامية من الدعوة إلى الحق .ولذا كان يتخذها النبي صلى الله عليه وسلم منهاجه في دعوته ،فقد كانت في الصيغة التي اختارها في دعوة الملوك والحكام الكبراء إلى الإسلام ،وهذا نص كتابه عليه الصلاة والسلام إلى هرقل ملك الروم:
"من محمد عبد الله ورسوله ،إلى هرقل عظيم الروم ؛سلام على من اتبع الهدى .اما بعد فإني ادعوك بدعاية الإسلام ،أسلم تسلم ،وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ،وإن توليت فإنما عليك إثم الأريسين{[508]} ، ويا اهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ان لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ،ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ،فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون"{[509]} .
ولقد كان النصارى يحاجون بولادة عيسى ،ويتخذون منها دليل ألوهيته ،واليهود يتحاجون ويجادلون بما عندهم من توراة ،أو بالأحرى بما بقي عندهم منها ؛ولما كان كل من الفريقين يدعي ان إبراهيم ابا الأنبياء كان على مثل دينهم ،وذلك ليبينوا ان ديانتهم هي ديانة السابقين ،كما هي ديانة المتأخرين ؛