هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ومن جرى مجراهم ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة ) والكلمة تطلق على الجملة المفيدة كما قال هاهنا . ثم وصفها بقوله:( سواء بيننا وبينكم ) أي:عدل ونصف ، نستوي نحن وأنتم فيها . ثم فسرها بقوله:( ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ) لا وثنا ، ولا صنما ، ولا صليبا ولا طاغوتا ، ولا نارا ، ولا شيئا بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له . وهذه دعوة جميع الرسل ، قال الله تعالى:( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ الأنبياء:25] . [ وقال تعالى] ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [ النحل:36] .
ثم قال:( ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ) وقال ابن جريج:يعني:يطيع بعضنا بعضا في معصية الله . وقال عكرمة:يعني:يسجد بعضنا لبعض .
( فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) أي:فإن تولوا عن هذا النصف وهذه الدعوة فأشهدوهم أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم .
وقد ذكرنا في شرح البخاري ، عند روايته من طريق الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس ، عن أبي سفيان ، في قصته حين دخل على قيصر ، فسألهم عن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صفته ونعته وما يدعو إليه ، فأخبره بجميع ذلك على الجلية ، مع أن أبا سفيان كان إذ ذاك مشركا لم يسلم بعد ، وكان ذلك بعد صلح الحديبية وقبل الفتح ، كما هو مصرح به في الحديث ، ولأنه لما قال هل يغدر ؟ قال:فقلت:لا ، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها . قال:ولم يمكني كلمة أزيد فيها شيئا سوى هذه:والغرض أنه قال:ثم جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه ، فإذا فيه:
"بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى . أما بعد ، فأسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ، و ( يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) .
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد أن صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها نزلت في وفد نجران ، وقال الزهري:هم أول من بذل الجزية . ولا خلاف أن آية الجزية نزلت بعد الفتح ، فما الجمع بين كتابة هذه الآية قبل الفتح إلى هرقل في جملة الكتاب ، وبين ما ذكره محمد بن إسحاق والزهري ؟ والجواب من وجوه:
أحدها:يحتمل أن هذه الآية نزلت مرتين ، مرة قبل الحديبية ، ومرة بعد الفتح .
الثاني:يحتمل أن صدر سورة آل عمران نزل في وفد نجران إلى عند هذه الآية ، وتكون هذه الآية نزلت قبل ذلك ، ويكون قول ابن إسحاق:"إلى بضع وثمانين آية "ليس بمحفوظ ، لدلالة حديث أبي سفيان .
الثالث:يحتمل أن قدوم وفد نجران كان قبل الحديبية ، وأن الذي بذلوه مصالحة عن المباهلة لا على وجه الجزية ، بل يكون من باب المهادنة والمصالحة ، ووافق نزول آية الجزية بعد ذلك على وفق ذلك كما جاء فرض الخمس والأربعة الأخماس وفق ما فعله عبد الله بن جحش في تلك السرية قبل بدر ، ثم نزلت فريضة القسم على وفق ذلك .
الرابع:يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بكتب هذا [ الكلام] في كتابه إلى هرقل لم يكن أنزل بعد ، ثم نزل القرآن موافقة له كما نزل بموافقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحجاب وفي الأسارى ، وفي عدم الصلاة على المنافقين ، وفي قوله:( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) [ البقرة:125] وفي قوله:( عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن ) الآية [ التحريم:5] .