/م61
[ فإن تولَّوا] وأعرضوا فلم ينفتحوا عليك من خلال الدعوة ،ولم يستجيبوا لك في خطّ الحوار الذي يوصل المتحاورين إلى الحقيقة ،وذلك بالهروب منه ،أو بالدخول في الجدل الفارغ والمهاترات وغير ذلك مما لا يؤدي إلى نتيجة ،فلا تلتفت إلى إعراضهم ،ولا تضعف أمام ذلك كلّه ،فإنَّ ذلك سوف يُعبّر عن حقيقة سلبية في مضمون إنسانيتهم في الطاقات التي منحهم اللّه إياها ،وجعلها في تصرفهم وطوع إرادتهم ،ليوجهوها إلى الصلاح ليقوموا بإصلاح أنفسهم في معنى العقيدة ،وحياتهم في خطّ الشريعة ،وعلاقاتها بالكون والحياة وببعضهم البعض ،في امتداد الحياة ،وإصلاح الواقع من حولهم من خلال دورهم الفاعل في الحركة والبناء ،ووجّههم إلى توحيده باعتباره الفكر الذي يمثِّل إشراقة الوعي الكامل في وجدانهم ،لينطلقوا في وجودهم من معنى الوحدة في الإله إلى الوحدة في المسؤولية من خلال وحدة الإنسان في دوره الريادي في الأرض ،ليتجه الكون كلّهولا سيّما الكون الحيّ في وجود الإنسانإلى غاية واحدة ،وشريعة واحدة ،ونهجٍ واحد ،من خلال اللّه الذي يقف النّاس كلّهم في موقع الطاعة له والعبودية له ،والسير في طريقه المستقيم ،لأنَّ ذلك هو سبيل الإصلاح ،فإنَّ تعدّد الآلهة يؤدي إلى فساد الذهنية الحركية في الواقع كلّه ،فإذا واجهت أمثال هؤلاء الذين لا يعيشون الفكر مسؤولية ،والصلاح هدفاً ودوراً ،ورأيتهم غافلين عمّا فيه نجاتهم وصلاح أمرهم ،فأعرض عنهم واترك أمرهم للّه ،[ فإنَّ اللّه عليمٌ بالمفسدين] الذين يفسدون الأرض بعد إصلاحها بإفساد العقيدة وإفساد الحياة من خلال ما يثيرونه من عقائد الباطل وأساليب الضلال ،وهو قادرٌ على أن يُعاقبهم بما يستحقون بعد أن قامت عليهم الحجّة من جميع الجهات ،واللّه لا يحبُّ المفسدين .
الدرس الذي نأخذه من هذا الأسلوب:
أمّا الدرس الذي نستفيده من ذلك كلّه ،فهو العمل على توظيف الجانب الإيماني ،بعد ممارسة الجوانب العملية والفكرية ،في الحوار الهادئ العميق بين الإسلام وخصومه ،انطلاقاً من الفكرة الحاسمة الواقعية التي تقول: إنَّ على الداعية أن لا يهمل أيّ عنصر من عناصر التأثير على الآخرين في إيصالهم إلى الحقيقة ،أو في الإيحاء إليهم بالاطمئنان إلى قوّة هذه الحقيقة ..حتّى ليقف الإنسان في أشدّ المواقف حراجة في مجالات التحدّي لثقته بأنَّ الدعوة في المستوى القوي لمواجهة التحدّي بأقوى منه .
وقد أثار علماء التفسير حديثاً مطوّلاً حول دلالة هذه الآية على بعض الجوانب الخلافية التي وقعت مجالاً للأخذ والردّ ،وذلك مثل مصداقية كلمة [ أبناءنا] على الحسن والحسين( ع ) ،ما يوحي بأنَّ ولد البنت يُعتبر مصداقاً لمفهوم الابن ...ودلالتها بلحاظ التطبيق على أنَّ عليّ بن أبي طالب ( ع ) هو نفس النبيّ ،لأنَّ النبيّ قدّمه في المباهلة من خلال هذه الصفة .ثُمَّ يتفرع الحديث في اتجاه دلالة الآية على أنَّ هؤلاء الذين قدّمهم رسول اللّه ( ص ) للمباهلة لهم علاقة بحركة الدعوة ،ولو في نطاق الوصية والتبليغ ،إذ إنَّه اعتبرهممعهفريقاً في النتيجة الحاسمة على تقدير الصدق أو الكذب ،ولذا جاء بكلمة [ الكاذبين] بصيغة الجمع .
وقد كثُر الحديث والجدال في هذا الموضوع في بعض كتب التفسير ،كتفسير المنار الذي كان يدافع عن فكرة عدم دلالتها على أيّ شيء يتعلّق بموضوع الإمامة ،وكتفسير الميزان الذي يُدافع عن فكرة دلالتها على هذا الموضوع ويُعالجها بأسلوب علمي دقيق .ونحن لا نريد الخوض في هذا المجال ،بل نكتفي بالإشارة إلى ذلك ليرجع إليه القارئ في مظانه ،لأنَّ منهج التفسير لدينا يتحرّك في إطار الوحي القرآني لحركة الدعوة في الحياة .