قوله تعالى: ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) النفي في الآية يقع على الجنس والنجوى والمناجاة والنجاء تعني المسارّة بين اثنين أو أكثر .والاستثناء هنا منقطع ؛لأنه استثناء من غير الجنس .وفي الآية رفض غليظ لما تناجى به بنو أبيرق من تمالؤ خائن وهم يصطنعون لرجلهم البراءة في غش والتواء .إنه لا خير في ما يستسره هؤلاء المنافقون من إخفاء للحق وإظهار للباطل .على أن الآية تتناول الإغلاظ والنكير على أية مناجاة يقع فيها التمالؤ المحظور ،وهي مثال يبصرنا بحقيقة هذا الصنف من البشر المنافق الذي يؤثر العيش في الظلام حيث الخديعة والائتمار والتدسس .وتلك مفاسد خلقية يحرّمها الإسلام أشد تحريم ويفرض مكانها الصراحة والوضوح والصدق واستقامة القصد وفي ذلك من براءة النية والضمير ما يكفل التوبة والغفران من الله .فليس الأمر قاصرا على بني أبيرق الذين أوقعوا يهوديا بريئا في ظلم استنقاذا لواحد منهم كان سارقا ،بل إن المقصود ترسيخ الحق ،والقضاء بالعدل في كل الأحوال مهما تكن الظروف والملابسات ومن غير التفات للتباين في مقادير الأشخاص واعتباراتهم الاجتماعية أو السياسية أو غير ذلك من صور الاعتبارات التي تعتمدها أعراف الأرض .وقوله: ( إلا من أمر بصدقة أو معروف ...) ذلك استثناء منقطع على الراجح وذلك للاختلاف بين الأمر بجملة فضائل كالصدقة والمعروف والإصلاح ،والمستثنى منه وهو النهي عن الاستمرار والمناجاة بالسوء .
والاستثناء في الآية يدل على طلب الأمر بالصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس وهي فضائل كريمة يتزين بها الفرد والجماعة لتكون لهم خير مظهر يكشف عن صدق القصد والمضمون .وفي هذا يقول النبي ( ص ) فيما ترويه أم حبيبة قالت: قال رسول الله ( ص ):"كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ذكر الله عز وجل أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر "وقد روى مثله كل من الترمذي وابن ماجه .
وأخرج الإمام أحمد بإسناده عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله ( ص ) يقول:"ليس الكذّاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا "وقالت: لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب ،والإصلاح بين الناس ،وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها ".
وأخرج الإمام أحمد أيضا عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله ( ص ):"ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟!"قالوا: بلى يا رسول الله قال:"إصلاح ذات البين ".قال:"وفساد ذات البين هي الحالقة "
وأخرج البزار عن أنس أن النبي ( ص ) قال لأبي أيوب:"ألا أدلك على تجارة ؟!"قال: بلى يا رسول الله قال:"تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا ،وتقارب بينهم إذا تباعدوا ".
أما المعروف فهو ضد المنكر وهو من المعرفة والتعارف حيث التلاقي وانعقاد الألفة والمودة .وهو في معناه لذو شمول يتضمن وجوه الخير والبر جميعا ،وذلك كالصدق وإسداء النصيحة وإكرام الضيف والجار وحسن التقاضي والتعامل في تسامح وهوادة وغير ذلك من ضروب الرفق والإحسان وطيب العشرة .
وأما الصدقة فهي عنوان العطاء والبذل في همّة وسخاء وهي كسر لإسار الشحّ البغيض الذي يستحوذ على النفس في الغالب ولا يلفت من غلّة إلا من جاهد نفسه فملك زمامها .يقول سبحانه: ( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) والصدقة نوعان: أحدهما للتطوع والآخر فريضة .وهما كلاهما مجلبة للأجر والمثوبة من الله ومطردة الخطايا والسيئات بما يزحزح العبد عن فيح جهنم حيث العذاب البئيس .
وقد تطلق الصدقة من حيث المعنى فتتضمن وجوها في الخير تتجاوز حصول البذل والجود بالمال تطوعا أو فريضة .وإطلاق الصدقة يشمل معاني شتى في الخير وذلك مثل إماطة الأذى عن الطريق ،أو الأخذ بيد أعمى لهدايته إلى الطريق ،أو في عون ذي الحاجة الملهوف في قضاء شأن من شؤونه ،أو الملاطفة يبذلها المرء نحو أخيه أو تبسمه في وجهه ،وهي معان في الأخلاق الكريمة تندرج في المفهوم المطلق للصدقة مثلما ورد في السنّة المطهرة .
وأما الإصلاح بين الناس فهو في طليعة المحاسن من الأخلاق التي تتجلى في المؤمن التقي العامل .ذلك أنه وسيلة التوفيق بين المتدابرين والمتخاصمين وأنه السبيل التي تسعف في التئام المسلمين كيما يتآزروا وتتحد كلمتهم وكيما يكونوا دائما يدا واحدة على من سواهم .وانعدام الإصلاح دليل التمزق والشتات وذهاب ريح الأمة .
ومنوط بالمسلم أن يندفع في نشاط وحماسة ليصلح بين الناس إذا ما تخالفوا أو دبّ بينهم دبيب الفرقة والبغضاء .ولمن يبادر في الإصلاح كبير الأجر والثواب بما لا يعلم مداه إلا الله سبحانه .وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ( ص ) يقول:"من أصلح بين اثنين استوجب ثواب شهيد "{[831]} .