قوله تعالى:{قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الأيت لعلهم يفقهون} بعد أن بين الله أنه هو الذي يكتب النجاة لعباده ويرفع الشدائد عن المكروبين ،فإنه يبين عقيب ذلك أنه هو القادر على إلقائهم في المهالك وإنزال البلاء بهم فيقول سبحانه:{قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم} العذاب من فوقهم يراد به الطوفان والرجم بالحجارة والصيحة والريح ،مثلما فعل بقوم نوح وقوم لوط وعاد وثمود .وأما العذاب من تحت أرجلهم فهو الخسف والرجفة ،مثلما فعل بقارون وأصحاب مدين .
قوله:{أو يلبسكم شيعا} جمع شيعة وهم الأتباع والأنصار .وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة ،والجمع شيع .مثل سدرة وسدر{[1190]} ويلبسكم ،من اللبس وهو الخلط .لبست عليه الأمر إذا خلطته فأنا ألبسه .ويلبسكم أي يخلط أمركم فيجعلكم أهواء مختلفة وأحزابا مفترقة .
قوله:{ويذيق بعضكم بأس بعض} البأس معناه العذاب ،والشدة في الحرب{[1191]} ويذيق ،من الذوق .وأصل ذلك من ذوق الطعام ،ثم استعمل في كل ما وصل إلى الإنسان من لذة وحلاوة ومرارة ومكروه وألم .والمراد أن تعمكم الفتنة فيقتل بعضكم بعضا .
ولقد حل بأمة محمد صلى الله عليه وسلم من أنواع الفتن ما يثير الحزن والمضاضة .وهذه حقيقة أليمة نذكرها في غاية الإحساس بالمرارة والأسى .
لقد دهمت المسلمين من القلاقل والفتن التي كثيرا ما عصفت بكلمتهم ووحدة صفهم بعد أن انقلبوا شيعا مختلفي الأهواء وبعد أن استحوذ عليهم الشيطان وطغى عليهم حظ النفس من الدنيا في كثير من الأحيان فدارت بينهم معارك وحروب طاحنة أزهقت فيها أنفس كثيرة .وذلك عقيب لحاق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى .مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حذر من فداحة الاختلاف في الأهواء أو الحرص المتكالب على حظ النفس من الدنيا ،بما يفضي في النهاية إلى اختلاف القلوب وتنافرها ثم الاقتتال والاحتكام إلى السيف فقال عليه السلام:"لا تنقلبوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيوف "فقالوا: ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ؟قال:"نعم ".
وذلك الذي حل بالمسلمين وا أسفاه !إذ انصاعوا لنداء الشيطان يحرض شيعهم وفرقهم على الحرب والاقتتال . مع أن جدير بالمسلمين أن يكونوا أكثر أمم العالمين طرا تماسكا وائتلافا وانسجاما ما دامت عقيدتهم الراسخة العظيمة قائمة على التوحيد .وهي تدعو بالضرورة إلى الوحدة والتئام الصفوف .لقد كان جديرا بالمسلمين أن يظلوا طوال الدهر أحرص الناس على الإخاء والوحدة وتمام التلاقي في إطار العقيدة والدين وأن لا يفتلهم عن ذلك أي سبب من أسباب الغواية أو الهوى أو حب الدنيا والحرص على الشهوات .
قوله:{انظر كيف نصرف الأيات لعلهم يفقهون} أي نبين لهم الدلائل والحجج ،أو من أنواع الكلام ما بين وعد ووعظ ووعيد لكي يعتبروا فيذكروا أو يزدجروا عما هم عليه من الشرك و التكذيب{[1192]} .