أسلوب القرآن في فتح قلوب المشركين على الحقيقة
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فكيف تتفادون ذلك كله إن عصيتم وتمرّدتم ؟ولعلّ الإيحاء بإحاطة العذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم ،حيث يتساقط عليهم من السماء ،أو يطلع إليهم من أعماق الأرض ،يثير الشعور بالفزع والرعب والهول ،لأن الإنسان لا يملك الوسيلة الذاتية التي تحقق له السيطرة عليه ،أو الهروب منه ،بينما يملك دفع العذاب إذا جاء من طريق اليمين والشمال ..{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} في ما يمثّله ذلك من عذاب يوميّ ،نفسيّ وعمليّ ،يأخذ على الإنسان كل حياته ليجعلها في قبضة التمزيق ،من خلال ما يثيره تفرق المجتمع إلى شيع وأحزاب من نوازع العصبية البغيضة ،والحقد العميق ،ما يؤدّي إلى التقاتل والتدافع ،ويدفع إلى المزيد من الآلام والخسائر ومظاهر الخراب والدمار ،خاصة إذا ما جاء ذلك من الأيدي القريبة التي كانت تتصافح بروح الصداقة ،فإذا بها تتقاتل بروح العداوة ..وتلك هي قصة الواقع الإنسانيّ الذي يمثّل لوناً من ألوان العذاب الذي ينزله الله على الناس في الدنيا بشكل مباشرٍ أو غير مباشر ..فالبعض منه يتنزل على أساس العقوبة على التمرّد والعصيان ،وفي البعض الآخر ،يحدث كنتيجةٍ طبيعيّةٍ لبعض أنماط السلوك الإنساني المنحرف في ما ينتجه هذا العمل السيّىء أو ذاك .
تلتقي إثارة ذلك كله أمام الناس ،ولا سيّما المكذبين منهم ،بالهدف القرآني الذي يريد أن يفتح قلب الإنسان على الحقيقة من أجل أن يفقه ويتأمّل ويواجه المعرفة الإيمانيّة بجدِّية ومسؤولية:{انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} .
على الإنسان أن يحذر عذاب الله
6في آية:{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} إشارة إلى أن عليهم الحذر من العذاب الذي يمكن أن يبعثه الله عليهم عقوبةً على كفرهم وعصيانهم وتمرّدهم ،لأنهم يستحقونه ،فهو القادر على ذلك بكل الوسائل وفي جميع الاتجاهات ،فقد يأتيهم العذاب من فوقهم ،كما في الرياح العاصفة والأمطار الشديدة والصواعق المحرقة ،ومن تحت أرجلهم ،كالزلازل والبراكين والفيضانات ،والانشقاقات الأرضية ونحو ذلك ،كما قد يتمثل ذلك في ممارسات المستكبرين ضد المستضعفين وفي ابتعاد الناس عن مسؤولياتهم في حماية نظام الناس ،ما قد يؤدي إلى الإضرار بهم ،وفي وسائل الحرب المدمّرة التي تحرق البلاد والعباد التي تقصفهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم .
التمزق شيعاً بلاء إلهيّ
7قوله:{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} إشارة إلى التمزقات الاجتماعية التي يتحول فيها المجتمع إلى فِرَقٍ متناثرة لا يجمع بينها شيء من خلال اختلاف الكلمة ،وتوزُّع الآراء ،وتشتُّت المواقف ،ما يؤدي إلى دمار اجتماعي وأخلاقي واقتصادي لا يقلّ خطورة عن الدمار المادي الذي يمثله العذاب المادي المذكور في الآية .
ولعل من الطبيعيفي وعي هذه المسألةأن يكون البلاء الإلهيفي ذلكناشئاً من الواقع الذي يعيشونه في الاختلاف الناشىء من حالة البغي فيما بينهم ،والفساد الكامن في داخل نفوسهم وأوضاعهم ،وتغليب المصالح الشخصية على المصالح العامة .
وإذا كان الحديث في هذه الآية عن المشركين ،فإنها قد تمتد إلى المسلمين الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً ،فتحزبوا للباطل في مذاهبهم وفي اتجاهاتهم ،وفي أوضاعهم العامة والخاصة ،ما أدّى إلى تمزيق الوحدة الإسلامية والاستعانة بالكافرين على المسلمين .