كيف يعبّر المسلمون عن فرحهم بالنصر ؟
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوّاباً} وهذا هو الجوّ الذي أراد الله من النبي( ص ) أن يستقبل به النصر والفتح والاندفاع الجماهيري للأمة نحو الإسلام .فليست هناك احتفالات للنصر ،ولا هتافات للفاتحين ،ولا استعراضٌ للقوى المسلّحة ،ولا استعلاء للقيادة ؛لأن النصر هو نصر الله الذي رحم به عباده المسلمين ،فلا بد للنبي والمسلمين معه أن يواجهوا الموقف بالتسبيح لله تعالى والتحميد له ،للانفتاح على مواقع عظمته في انطلاقات رحمته وفيوضات نعمته ؛لأن ذلك يؤكد في نفوسهم معنى الخشوع لله ،والإحساس بعبوديتهم له ،وبهيمنته على الوجود كله ،ليبقى هذا التواصل الروحي بين العباد وربّهم ،حتى لا يشعروا بالاستقلال عنه ،ممّا قد يوحي به الشيطان عندما يدفعهم إلى الاستغراق في أوضاعهم الذاتية بعيداً عن الله ،فيخيّل إليهم أن ما حصلوا عليه كان بجهدٍ ذاتيٍّ ،لا بتوفيقٍ إلهيّ ،فيستكبرون عن عبادة الله ،وينحرفون عن الصراط المستقيم .
وهذا هو المنهج الروحي الأخلاقي الذي يريد الله من الإنسان المؤمن أن يلتزمه في حركته العملية ،فيكون التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير سبيله إلى تعميق إحساسه بالصلة الوثيقة التي تربطه ،كما تربط الكون كله بالله .
وذكر بعض المفسرين في وجه مناسبة الأمر بالتسبيح والحمد للموضوع فقال: «لما كان هذا النصر والفتح إذلالاً منه تعالى للشرك وإعزازاً للتوحيد ،وبعبارة أخرى ،إبطالاً للباطل وإحقاقاً للحق ،ناسب من الجهة الأولى تنزيهه تعالى وتسبيحه ،وناسب من الجهة الثانيةالتي هي نعمةالثناء عليه تعالى وحمده ،فلذلك أمره بقوله:{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}[ 4] .
كيف نفهم توجيه الخطاب بالاستغفار إلى النبي المعصوم ؟
وأمّا الاستغفار ،فقد يكون التفاتاً إلى كلِّ التاريخ الذي عاش فيه المسلمون في حركة الصراع ،مما قد يكونون قد أخطأوا فيه ،أو أذنبوا في تجاوز بعض حدود الله ،ليقف الجميع بين يدي الله في موقف الفتح والنصر وانفتاح الواقع على الإسلام كله ،ليستغفروه من ذنوبهم الماضية ،ليتوب عليهم ،امتناناً منه ورحمةً ،على أساس جهدهم الذي قدّموه في سبيل الله في نتيجته الكبيرة بفتح مكة .
وإذا كان النبي( ص ) لم يقم بذنب في كل مسيرته على أساس عصمته وكماله ،فقد يكون الخطاب له ،من خلال أنه قائد المسلمين ،في ما تمثله القيادة من عنوان القاعدة ،فيخاطبهم الله باسمه ؛لأنه يتحمّل مسؤوليتهم في العنوان العام .وقد يكون الأمر بالاستغفار الذي هو سببٌ للتوبة ،من خلال ما يمثله من حالة العبودية المنسحقة الخاضعة لله ،التي تعيش هاجس الخوف من تهاويل الذنب من خلال النقص الذاتي ،حتى لو لم يكن هناك ذنب ،وتتطلب التوبة الإلهية باعتبار أنها مظهر المحبة التي يمنحها الله للتوّابين ،فهي تنطلق من موقع إيحاء المعنى ،لا من خلال حرفيته ،والله العالم .
وقد نحتاج إلى إبداء ملاحظة حول الروايات التي استوحى منها بعض الصحابة من السورة ،أن الله ينعي للنبي نفسه ،فقد لا نجد فيها هذا الظهور ،ولكن ربما كان هناك بعض الإيحاء الذي يجتذب الإحساس ،باعتبار أن ذلك دليلٌ على استكمال مهمته ،في شمول الإسلام للمنطقة كلها ،وفي كلمات التسبيح والحمد والاستغفار التي قد توحي بأنها الكلمات التي يحتاج الإنسان إليها ليقابل وجه ربه ،والله العالم .