{وَقَضَيْنَآ}: أي أعلمنا وأوحينا .
{وَلَتَعْلُنَّ}: العلوّ لغةً الارتفاع ،وهو في الآية كناية عن الطغيان بالظلم والتعدي ،يستفاد ذلك من عطفه على الإفساد عطف تفسير .وهو شبيه بقوله تعالى في حديثه عن فرعون:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ في الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} [ القصص:4]
بنو إسرائيل وسنن التاريخ
وكان من حديث الله لبني إسرائيلفي ما أوحاه إلى موسى في الكتابأنه أجرى الحياة على سنّةٍ اجتماعيةٍ ،تخضع لها كل المجتمعات في عملية العلو والسقوط ،وفي حركة التقدم والتأخر .فالاستغراق في الفساد ،والامتداد في العلوّ على الناس ،والاستكبار عليهم ،كل ذلك يولّد مشاكل وسلبياتٍ كثيرة لهؤلاء المفسدين والمستكبرين ،وذلك لما تنتجه من آلامٍ للناس ،وتدميرٍ لأوضاعهم ،واهتزازٍ لمواقعهم ،كما تُنتجفي مقابل ذلكألواناً متنوعة من الفساد الذاتي الذي يضعف مواقعهم الاستكبارية ،فيستسلمون لحالة استرخاءٍ ولهوٍ واستسلامٍ للراحة والدِّعة ،ويخضعون للأجواء التي توحي لهم بالأمن والسلام ،بينما تتحفّز القوى الأخرى المضادّة للاستفادة من ذلك الواقع كله في ظلم المستكبرين وتململ المستضعفين ،فتأتيهم الهزيمة من حيث لا يشعرون ،فلا يستطيعون دفاعاً ،ولا يملكون ثباتاً في أيِّ موقفٍ أمام الثورة الهائجة التي تدمر كل شيء من حولهم وتقضي عليهم .
التدخل الإلهي وقانون السببية
وتلك هي سنّة الله في الحياة ،في ما أودعه في الكون من سننه في قوة الأمم وضعفها وحياتها وموتها ،ولم يميز الله المؤمنين عن بقية خلقه في هذا القانون الاجتماعي الكوني ،بل أراد لهم أن يسيروا كما يسير الناس ،ليحصلوا على النتائج السلبية بسبب ما يتحركون فيه من فسادٍ ،أو على النتائج الإيجابية بسبب ما يمارسونه من صلاحٍ ،وبذلك لا يكون تدخّل الله في المسألة بشكلٍ مباشر ،بل يكون تدخلاً بطريقةٍ غير مباشرةٍ ،من خلال ما أودعه في الحياة من قانون السببية الذي يربط بين المسبّب والسبب ،والنتائج ومقدماتها ...ولكن الله ينسب كل شيء إلى نفسه ،للإيحاء بأنه السبب الأعمق وراء كل سببٍ ،والقوّة المهيمنة على كل ظاهرةٍ ،ولتأكيد جانب التوحيد في مواجهة عقلية الشرك ،التي قد تنسب الكثير من الظواهر إلى غير الله ،مما يشرك به الناس في عبادته ،على أساس النظرة السطحية التي تنسب بعض الأشياء إلى مقارناتها ،أو إلى الجهات المتصلة بها بشكلٍ مباشرٍ .
وقد أخبر الله بني إسرائيل ،بما سيحدث لهم في مستقبل أمرهم من بلاءٍ وتدميرٍ ،بسبب ما يصدر عنهم من علوٍّ واستكبارٍ ،وجعل ذلك خطاً عملياً مستمراً مع الحياة ضمن القانون الإلهي التكويني الذي يربط الظاهرة السلبية أو الإيجابية بأسبابها الكونية .وهذا ما نحاول أن نثيره في معرض تفسير الآيات الآتية .
بنو إسرائيل والإفساد في الأرض
{وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِي إِسْراَئيلَ} أي عهدنا إليهم وأعلمناهم بشكل حاسم لا شك فيه ،مما نحيط به علماً من حوادث المستقبل المتصلة بحياتهم ،والمتحركة من خلال الأسباب الطبيعية الموجودة في الواقع الزمني المقبل .{لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} أي لتفسدن حياة الناس بالكذب والنفاق والغش والخداع والظلم والكبرياء والبغي بغير الحق ،على مستوى الاجتماع والاقتصاد والفكر والعقيدة والسياسة والسلوك ...{وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} من خلال الشعور المعقَّد بالتفوق على الناس المرتكز على أسطورة شعب الله المختار التي تغذي لديهم الشعور بالاستكبار والعلوّ الذاتي على الآخرين ،الأمر الذي يؤسس لاستضعاف كل من عداهم وإهدارٍ كراماتهم ،وتدمير أوضاعهم على جميع المستويات .
إنها نبوءة المستقبل التي توحي إليهم بأنهم سينحرفون عن تعاليم الكتاب ،الذي يريد لهم أن يتخذوا مفاهيمه وشريعته قاعدةً لبناء الحياة على أسسٍ ثابتةٍ لا على أسسٍ مهتزةٍ ،ومنهجاً لإصلاحها لا لإفسادها ،ولكنها شهوات اللحم والدم التي تبتعد بالناس عن خط التوازن في النظرة إلى الأشياء ،ثم هناك انفعالات الفكرة الشوهاء التي تثير فيهم الغرور ،وتدفعهم إلى العصبية ،وتقودهم إلى العدوان ...وهكذا عاشوا لعنة المستقبل الذي سيصنعون شروره بأيديهم ،وسيسقطون في هزائمه بتصرفاتهم ،وسينتظرون أن تحل بهم اللعنة مرتين ،لأن الفساد الأكبر سيتكرر بهذا المستوى .