{لِيَسُوؤواْ}: من المساءة ،يقال أساء زيدٌ فلاناً إذا أحزنه .
{حَصِيراً}: حابساً .
أبواب الرحمة الإلهية
{عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ} بعد ذلك التشريد والتنكيل والهلاك ،إذا رجعتم إليه ،وعملتم بكتابه ،وسرتم على الصراط المستقيم ،مما يعيد إليكم عزكم ومجدكم وامتدادكم في الأرض ،لأن الله لن يسلب من أمّة رحمته إذا أخذت بأسبابها بعد أن كانت قد ابتعدت عنها ،فهو جعل أبواب رحمته لمن أراد أن يدخلها ،ولكن ذلك لا يعنيفي أيّ حالأن الله يسمح للعبد أن يستغل ذلك في السير مع خط الضلال من جديد ،أملاً في أجواء الرحمة .{وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} لأن الإفساد الجديد لن ينتج إلا دماراً جديداً لا ينتهي في الدنيا ،ولكنه ينتهي إلى الآخرة{وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} تحصرهم فلا يفلت منهم أحد .
حادثتان مدمرتان
وقد يتحدث المفسرون عن الجانب التاريخي للواقع التطبيقي لما أشار إليه القرآن من حالتي الإفساد اللّتين عاشهما بنو إسرائيل ،وحالتي التدمير اللتين حلّتا بهم ،فيذكرون أن هناك أكثر من حالة هجومٍ عليهم في تاريخهم السحيق ،ولكن هناك حادثتين بارزتين ،كانتا مدمّرتين لوجودهم وكيانهم ،وإحداهما الهجوم الذي قام به الملك البابلي «نبوخذ نصر »قبل الميلاد بستة قرون«وكان ملكاً ذا قوّة وشوكة من جبابرة عهده ،وكان يحمي بني إسرائيل فعصوه وتمردوا عليه ،فسار إليهم بجيوش لا قبل لهم بها ،وحاصر بلادهم ،ثم فتحها عنوةً ،فخرّب البلاد ،وهدم المسجد الأقصى ،وأحرق التوراة وكتب الأنبياء ،وأباد النفوس بالقتل العام ،ولم يبق منهم إلا شرذمة قليلة من النساء والذراري وضعفاء الرجال ،فأسرهم وسيّرهم معه إلى بابل ،فلم يزالوا هناك لا يحميهم حام ،ولا يدفع عنهم دافع طول زمن حياة نبوخذ نصر وبعده زماناً طويلاً ،حتى قصد كسرى كورش أحد ملوك الفرس العظام بابل وفتحها ،وتلطّف على الأسرى من بني إسرائيل ،وأذن لهم في الرّجوع إلى الأرض المقدسة ،وأعانهم على تعمير الهيكلالمسجد الأقصىوتجديد الأبنية ،وأجاز لعزراء أحد كهنتهم أن يكتب لهم التوراة ،وذلك في نيف وخمسين وأربعمائة سنة قبل الميلاد .
والذي يظهر من تاريخ اليهود أن المبعوث أولاً لتخريب بيت المقدس هو بخت نصر وبقي خراباً سبعين سنة ،والمبعوث ثانياً هو قيصر الروم إسبيانوس سيّر إليهم وزيره طوطوز فخرّب البيت وأذلّ القوم قبل الميلاد بقرن تقريباً » .
ولا يستبعد صاحب الميزانفي تفسيره«أن تكون الحادثتان هما المرادتان في الآيات » ولكنه يناقش الأمر بالقول «أن فيها( في الآيات )إشعاراً بأن المبعوث إلى بني إسرائيل في المرة الأولى والثانية قوم بأعيانهم ...» ،ثم يرفض ذلك على أساس أنه مجرد «إشعار من غير دلالة ظاهرة » .
وربما كان هذا الاستبعاد الذي أشار إليه صاحب الميزان ،هو الذي دعا بعض المتأخرين إلى القول بأنها تحمل في داخلها الإيحاء بأن الآيات قد تتحدث عن معركة بين المسلمين واليهود في العصر الحاضر ينتصر فيها المسلمون عليهم ،ثم يعود اليهود إلى النصر ،ثم إلى الهزيمة التي تدمرهم تدميراً .وهذا هو الجو الذي يتحرك فيه الصراع الدامي بين العرب والمسلمين وبين إسرائيل .
ولكن مثل هذه الأمور لا تحمل في داخلها شاهداً على التحديد ،ما يجعل المسألة خاضعةً للاستنتاج الذاتي ،لا للشواهد العلمية .وقد درجنا في هذا التفسير على عدم الاهتمام بتفصيل ما أجمله القرآن ،لأن ذلك لا يمثل مشكلةً كبيرةً في ما هو المهمّ من إثارة القرآن للفكرة التي يريد منها إعطاء النموذج ،وتقديم الدرس ،بعيداً عن خصوصيات القصة في تفاصيلها الدقيقة في أرض الواقع ،ولذلك فإننا نكتفي بالإشارة إلى الموضوع من دون الدخول في مناقشات التفصيل .
كيف نستوحي الآية ؟
إن المسألة ليست مسألة خصوصية بني إسرائيل بل هي مسألة الفساد في الأرض الذي ينتج المشكلة للمفسدين ،من خلال الفئات التي تعاني من ضغط الفساد على واقعها ،وتأثيره على حياتها ،فيدفعها ذلك إلى استجماع القوة من مواقع الضعف لتهجم على الذين صنعوا لها الذل والألم والعذاب ،لتدمّر وجودهم بكل قسوة وقوّة ،أو من خلال الفئات التي تترصّد عوامل الضعف لتنال من مواقع القوّة للأقوياء .وقد تبدأ عملية التآكل الذاتي عندما يستسلم فيه هؤلاء إلى اللذات والشهوات ،ويكفّون عن تنمية عوامل النموّ والقوّة ،فتجد الفئات المتربّصة بهم الفرصة الذهبية التي تتيح لها التغلُّب عليهم ،وهزيمتهم بكل سهولة .
وهذا ما عاشه المسلمون في أكثر من موقع من مواقع تاريخهم عندما هزموا في الأندلس ،أو عندما هزمهم التتار ،أو عندما هزمهم اليهود في فلسطين ...وهكذا تتحرك كل عوامل الضعف التي تفقد معها الشعوب والأمم الرغبة في الموت ،وتسترخي فيها لحبّ الحياة ،لتسقط كل إمكانات القوّة لدى الكبار بأيدي الصغار ،وتلك هي سنّة الله في خلقه وفي الحياة .