ويسألونك عن اليتامى:
] وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى[ كيف تكون علاقاتهم معهم ،في ما يفعلونه في أموالهم وتربيتهم ورعايتهم ؟فقد كانوا يمثّلون مشكلةً أساسية في الضمير الديني للإنسان المسلم ،فقد يتحرّج الكثيرون من التعامل معهم خوفاً من الإثم .
فقد جاء في الدر المنثور ،قال ابن عباس: لما أنزل اللّه] وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[ [ الأنعام:152] و] إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى[ [ النساء:10] الآيتين ،انطلق كلّ من كان عنده يتيم ،فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه .فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيجلس له حتى يأكله أو يفسد فيرمي به ،فاشتدّ ذلك عليهم ،فذكروا ذلك لرسول اللّه( ص ) ،فأنزل اللّه:] وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ[ فخلطوا طعامهم بطعامهم ،وشرابهم بشرابهم .
فكان الجواب تحديداً للخطّ العام والإطار الشامل لذلك:] قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ[ فلا بُدَّ من دراسة كلّ أمورهم في نطاق الإصلاح لدنياهم وآخرتهم ،لأنهم أمانة اللّه لدى المجتمع ،فعلى أفراده أن يراعوا جانب الصلاح معهم ،كما يراعون ذلك في جانب الأمانة العادية في ما يتعلّق بحفظها ورعايتها .وقد تكون القضية أبعد عمقاً وتأثيراً في جانب اليتامى ،لأنَّ إصلاح أمر الإنسان الذي لا يملك تدبير شؤونه ورعايتها قد يدخل في تعقيدات كثيرة تحتاج إلى المزيد من الدقة والتأمّل والإيمان ،لئلا يفسد الإنسان الأمر من حيث يريد إصلاحه ،أو يفسد الأمر الصالح من حيث لا يريد إفساده .
ثُمَّ أكد القضية من جهة أخرى ،فأثار أمامهم موضوع المخالطة لهم] وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ[،وأراد من المسلمين أن يخالطوهم من موقع الشعور بأنهم أخوة في الدِّين ،كما يخالط الأخ أخاه في النسب من حيث احترامه له ورعايته لأموره ،وحفظه لماله ،على هدى قوله تعالى:] وَءَاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَلَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً[ [ النساء:2] .وأن لا ينظروا إليهم نظرة فوقية إشفاقية من خلال ضعفهم الطبيعي وحاجتهم الملحّة إليهم ؛فإنَّ ذلك يثقل على نفوسهم ،ويهدّم معنوياتهم ،ويُعقّد حياتهم ،ويعطّل نموهم الطبيعي في الحياة .وربما كانت هذه الفقرة واردة في الإذن لهم في ما كانوا يتحرجون فيه من مخالطتهم في المأكل والملبس والمشرب ونحو ذلك ،ورخصة لهم في ذلك إذا تحرّوا الصلاح بالتوفير على الأيتام .وعن الحسن وغيره .وهو الوارد والمروي في أخبارناكما في مجمع البيان.
وتختم الآية الجواب بتعميق الإحساس بقضية الممارسة الواعية لإصلاح أمر اليتامى ؛] وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ[،وذلك بالإيحاء بأنَّ اللّه يراقب عمل الإنسان في داخل النفس وخارجها ،ويعلم المفسد من المصلح في ما يقومان به من الإفساد والإصلاح ،ويحاسب كلاً منهما على ما عمله من خير أو شر .
ثُمَّ أكّد عليهم بأنَّ اللّه يريد للنّاس من خلال تشريعاته أن يحقّق لهم الانسجام والراحة والطمأنينة ،فتلك هي مشيئته في ما يريد للنّاس من حياة ،] وَلَوْ شَآءَ اللّه لأَعْنَتَكُمْ[ لأوقعهم في العنت ،وهو المشقة .وفي ضوء ذلك ،لا بُدَّ للإنسان من أن يفهم التشريع في كلّ ما يحلّله وما يحرّمه من أمور الحياة ،حتى في الأمور التي يشعرون معها بالتعب والمعاناة ،فإنَّ نتائج ذلك لا تبتعد عن مصالحهم الحقيقية .
وكانت خاتمة الآية] إِنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ[،باعتبار أنَّ عزته توحي بقوّة مشيئته ،كما أنَّ حكمته توحي بارتباط التشريع بمصلحة الإنسان .
وقد يستوحي الفقيه من قوله سبحانه:] قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ[ أنَّ التصرّف في أمر اليتيم ،سواء كان متعلقاً بماله أو بحياته الخاصة والعامة ،لا بُدَّ أن تكون فيه مصلحة له ،لأنَّ ذلك هو الذي يتبادر من قوله:] إِصْلاَحٌ لَّهُمْ[ كما يتبادر ذلك من قوله تعالى:] وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّه أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[ [ الأنعام:152] فلا يكفي في شرعيته أن لا يكون ذلك مفسدة له ،ولا بُدَّ من التأمّل في ذلك ،وفي كلّ مورد من موارد الولاية الشرعية المجعولة للإنسان على القاصر الذي لا يملك إدارة شؤون نفسه وتدبير أموره ؛فإنَّ القضية تتصل بإصلاح أمره ،وتنمية ماله ،وتوجيه حياته نحو النتائج الجيدة التي تحقّق له المصلحة في كلّ أموره .