وقوله:( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ) أي:كما فصل لكم هذه الأحكام وبينها وأوضحها ، كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده ، ووعيده ، لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس:يعني في زوال الدنيا وفنائها ، وإقبال الآخرة وبقائها .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا أبو أسامة ، عن الصعق العيشي قال:شهدت الحسن وقرأ هذه الآية من البقرة:( لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ) قال:هي والله لمن تفكر فيها ، ليعلم أن الدنيا دار بلاء ، ثم دار فناء ، وليعلم أن الآخرة دار جزاء ، ثم دار بقاء .
وهكذا قال قتادة ، وابن جريج ، وغيرهما .
وقال عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة:لتعلموا فضل الآخرة على الدنيا . وفي رواية عن قتادة:فآثروا الآخرة على الأولى .
[ وقد ذكرنا عند قوله تعالى في سورة آل عمران:( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) [ آل عمران:190] آثارا كثيرة عن السلف في معنى التفكر والاعتبار] .
وقوله:( ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم ) الآية:قال ابن جرير:
حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال:لما نزلت:( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) [ الإسراء:34] و ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ) [ النساء:10] انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله:( ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ) فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم .
وهكذا رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والحاكم في مستدركه من طرق ، عن عطاء بن السائب ، به . وكذا رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس . وكذا رواه السدي ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة ، عن ابن مسعود بمثله . وهكذا ذكر غير واحد في سبب نزول هذه الآية كمجاهد ، وعطاء ، والشعبي ، وابن أبي ليلى ، وقتادة ، وغير واحد من السلف والخلف .
قال وكيع بن الجراح:حدثنا هشام الدستوائي عن حماد ، عن إبراهيم قال:قالت عائشة:
إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي عرة حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي .
فقوله:( قل إصلاح لهم خير ) أي:على حدة ( وإن تخالطوهم فإخوانكم ) أي:وإن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم ، فلا بأس عليكم ; لأنهم إخوانكم في الدين ; ولهذا قال:( والله يعلم المفسد من المصلح ) أي:يعلم من قصده ونيته الإفساد أو الإصلاح .
وقوله:( ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم ) أي:ولو شاء لضيق عليكم وأحرجكم ولكنه وسع عليكم ، وخفف عنكم ، وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن ، كما قال:( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) [ الأنعام:152] ، ، بل قد جوز الأكل منه للفقير بالمعروف ، إما بشرط ضمان البدل لمن أيسر ، أو مجانا كما سيأتي بيانه في سورة النساء ، إن شاء الله ، وبه الثقة .