هذا تحريم من الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عبدة الأوثان . ثم إن كان عمومها مرادا ، وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية ، فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله:( والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين [ ولا متخذي أخدان] ) [ المائدة:5] .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله:( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب . وهكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومكحول ، والحسن ، والضحاك ، وزيد بن أسلم ، والربيع بن أنس ، وغيرهم .
وقيل:بل المراد بذلك المشركون من عبدة الأوثان ، ولم يرد أهل الكتاب بالكلية ، والمعنى قريب من الأول ، والله أعلم .
فأما ما رواه ابن جرير:حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني ، حدثنا أبي ، حدثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاري ، حدثنا شهر بن حوشب قال:سمعت عبد الله بن عباس يقول:نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء ، إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات ، وحرم كل ذات دين غير الإسلام ، قال الله عز وجل:( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ) [ المائدة:5] . وقد نكح طلحة بن عبيد الله يهودية ، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية ، فغضب عمر بن الخطاب غضبا شديدا ، حتى هم أن يسطو عليهما . فقالا:نحن نطلق يا أمير المؤمنين ، ولا تغضب ! فقال:لئن حل طلاقهن لقد حل نكاحهن ، ولكني أنتزعهن منكم صغرة قمأة فهو حديث غريب جدا . وهذا الأثر عن عمر غريب أيضا .
قال أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله ، بعد حكايته الإجماع على إباحة تزويج الكتابيات:وإنما كره عمر ذلك ، لئلا يزهد الناس في المسلمات ، أو لغير ذلك من المعاني ، كما حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن إدريس ، حدثنا الصلت بن بهرام ، عن شقيق قال:تزوج حذيفة يهودية ، فكتب إليه عمر:خل سبيلها ، فكتب إليه:أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها ؟ فقال:لا أزعم أنها حرام ، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن .
وهذا إسناد صحيح ، وروى الخلال عن محمد بن إسماعيل ، عن وكيع ، عن الصلت نحوه .
وقال ابن جرير:حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، حدثنا محمد بن بشر ، حدثنا سفيان بن سعيد ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن زيد بن وهب قال:قال [ لي] عمر بن الخطاب:المسلم يتزوج النصرانية ، ولا يتزوج النصراني المسلمة .
قال:وهذا أصح إسنادا من الأول .
ثم قال:وقد حدثنا تميم بن المنتصر ، أخبرنا إسحاق الأزرق عن شريك ، عن أشعث بن سوار ، عن الحسن ، عن جابر بن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا ".
ثم قال:وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه فالقول به لإجماع الجميع من الأمة على صحة القول به .
كذا قال ابن جرير ، رحمه الله .
وقد قال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا وكيع ، عن جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عمر:أنه كره نكاح أهل الكتاب ، وتأول ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن )
وقال البخاري:وقال ابن عمر:لا أعلم شركا أعظم من أن تقول:ربها عيسى .
وقال أبو بكر الخلال الحنبلي:حدثنا محمد بن هارون حدثنا إسحاق بن إبراهيم ( ح ) وأخبرني محمد بن علي ، حدثنا صالح بن أحمد:أنهما سألا أبا عبد الله أحمد بن حنبل ، عن قول الله:( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) قال:مشركات العرب الذين يعبدون الأوثان .
وقوله:( ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ) قال السدي:نزلت في عبد الله بن رواحة ، كانت له أمة سوداء ، فغضب عليها فلطمها ، ثم فزع ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره خبرها . فقال له:"ما هي ؟ "قال:تصوم ، وتصلي ، وتحسن الوضوء ، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . فقال:"يا أبا عبد الله ، هذه مؤمنة ". فقال:والذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها . ففعل ، فطعن عليه ناس من المسلمين ، وقالوا:نكح أمة . وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين ، وينكحوهم رغبة في أحسابهم ، فأنزل الله:( ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ) ( ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم )
وقال عبد بن حميد:حدثنا جعفر بن عون ، حدثنا عبد الرحمن بن زياد الإفريقي ، عن عبد الله بن يزيد ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تنكحوا النساء لحسنهن ، فعسى حسنهن أن يرديهن ، ولا تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن ، وانكحوهن على الدين ، فلأمة سوداء خرماء ذات دين أفضل ". والإفريقي ضعيف .
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تنكح المرأة لأربع:لمالها ، ولحسبها ولجمالها ، ولدينها ; فاظفر بذات الدين تربت يداك ". ولمسلم عن جابر مثله . وله ، عن ابن عمر:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الدنيا متاع ، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة ".
وقوله:( ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ) أي:لا تزوجوا الرجال المشركين النساء المؤمنات ، كما قال تعالى:( لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ) [ الممتحنة:10] .
ثم قال تعالى:( ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ) أي:ولرجل مؤمن ولو كان عبدا حبشيا خير من مشرك ، وإن كان رئيسا سريا ( أولئك يدعون إلى النار ) أي:معاشرتهم ومخالطتهم تبعث على حب الدنيا واقتنائها وإيثارها على الدار الآخرة ، وعاقبة ذلك وخيمة ( والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ) أي:بشرعه وما أمر به وما نهى عنه ( ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون )