سبب النّزول
نزلت في «مرثد الغنوي » بعثه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى مكّة ليخرج منها جماعة من المسلمين .وكان قوياً شجاعاً ،فدعته أمرأة يقال لها «عناق » إلى نفسها ،فأبى وكانت صديقته في الجاهلية ،فقالت له: هل لك أن تتزوج بي ؟فقال: حتّى استأذن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،فلمّا رجع استأذن في التزويج بها ،فنزلت الآية تنهي عن الزواج بالمشركات حتى يؤمنّ .
التّفسير
حرمة الزواج مع المشركين:
هذه الآية وطبقاً لسبب النزول المذكور أعلاه بمثابة جواب عن سؤال آخر حول الزّواج مع المشركين فتقول ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ ) ثمّ تضيف مقايسة وجدانيّة فتقول ( ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ) .
فصحيح أنّ نكاح الجواري وخاصّة الجواري اللاّتي ليس لهنّ مال ولا جمال غير محبّب في عرف النّاس ولا محمود لاسيّما إذا كانت هناك امرأة مشركة في مقابل ذلك تتمتّع بجمال وثروة ماديّة ،ولكنّ قيمة الإيمان تجعل الكفّة تميل لصالح الجواري ،لأنّ الهدف من الزواج ليس هو اللّذة الجنسيّة فقط ،فالمرأة شريكة عمر الإنسان ومربيّة لأطفاله وتشكّل قسماً مهمّاً من شخصيّته ،فعلى هذا الأساس كيف يصحّ استقبال الشرك وعواقبه المشؤومة لاقترانه بجمال ظاهري ومقدار من الأموال والثروة .
ثمّ أنّ الآية الشّريفة تقرّر حكماً آخر وتقول ( ولا تنكحوا المشركين حتّى يؤمنوا ولعبدٌ مؤمن خيرٌ من مشرك ولو أعجبكم ) .
وبهذا الترتيب منع الإسلام من زواج المرأة المؤمنة مع الرجل المشرك كما منع نكاح الرجل المؤمن من المرأة المشركة حتّى أنّ الآية رجّحت العبد المؤمن أيضاً على الرجال المشركين من أصحاب النفوذ والثروة والجمال الظاهري ،لأنّ هذا المورد أهم بكثير من المورد الأوّل وأكثر خطورة ،فتأثير الزوج على الزوجة أكثر عادةً من تأثير الزوجة على زوجها .
وفي ختام الآية تذكر دليل هذا الحكم الإلهي لزيادة التفكّر والتدبّر في الأحكام وتقول ( أولئكأي المشركينيدعون إلى النّار والله يدعو إلى الجنّة والمغفرة بإذنه ) ثمّ تضيف الآية ( ويُبيّن آياته للنّاس لعلّهم يتذكّرون ) .
بحوث
1الحكمة في تحريم نكاح المشركين
كما رأينا في الآية مورد البحث أنّها تُبيّن الغرض والحكمة من هذا التحريم بجملة قصيرة ،ولو أنّنا توغّلنا في المراد منها يتّضح: أنّ الزّواج هو الدّعامة الأساسيّة لتكثير النسل وتربية الأولاد وتوسعة المجتمع وأنّ المحيط العائلي مؤثّر جدّاً لتربية الأولاد ،هذا من جهة .
ومن جهة أخرى التأثير الحتمي للوراثة على أخلاق الأولاد وسلوكهم ،فالطّفل يتربّى في أحضان الأسرة منذ تولّده وينمو ويترعرع تحت رعاية أمه وأبيه غالباً ،وهذه المرحلة هي المرحلة الحسّاسة في تكوين شخصيّة الطفل .
ومن جهة ثالثة أنّ الشرك هو المصدر الأساس لأنواع الانحرافات ،وفي الحقيقة هو النار المحرقة في الدنيا والآخرة ،ولذلك فالقرآن الكريم لا يُبيح للمسلمين أن يُلقوا بأولادهم في هذه النّار .مضافاً إلى أنّ المشركين الّذين هم بالحقيقة أجانب عن الإسلام والمجتمع الإسلامي سوف ينفذون إلى مفاصل المجتمع الإسلامي وبيوت المسلمين من هذا الطريق ،فيؤدّي ذلك إلى تنامي قدرة الأعداء في الداخل والفوضى السياسيّة والاجتماعية في أوساط المجتمع ،وهذا الحال إنّما يكون في ما لو أصرّ المشركون على شركهم ،ولكنّ الباب مفتوح أمامهم فبإمكانهم اعتناق الإسلام والانخراط في صفوف المسلمين وبذلك يستطيعون الزواج من أكفّائهم المسلمين .
كلمة ( النكاح ) وردت في اللّغة فتارةً بمعنى المقاربة الجنسيّة ،وأخرى بمعنى عقد الزّواج ،والمراد هنا في هذه الآية هو الثاني ،أي عقد الزّواج بالرّغم من أنّ الرّاغب في المفردات يقول: ( النكاح ) في الأصل بمعنى العقد ،ثمّ استُعمِل مجازاً في العمليّة الجنسيّة .
2حقيقة المشركين
مفردة ( المشرك ) تُطلق غالباً في القرآن الكريم على من يعبد الأوثان ،ولكنّ
بعض المفسرين ذهب إلى أنّ المشرك يشمل سائر الكفّار كاليهود والنّصارى والمجوس ( وبشكل عام أهل الكتاب ) أيضاً ،لأنّ كلّ واحدة من هذه الطوائف يعتقد بوجود شريك للباري عز ّوجلّ ،فالنّصارى يعتقدون بالتثليث ،والمجوس يذهبون إلى الثنويّة وأنّ ربّ العالم هو مزدا وأهريمن ،واليهود يرون أنّ «عزير » ابن الله .
ولكن بالرّغم من أنّ هذه الاعتقادات الباطلة موجبة للشّرك إلاّ أنّ الآيات الشريفة الّتي تتحدّث عن المشركين في مقابل أهل الكتاب ومع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ اليهود والنصارى والمجوس يرتكزون في أساس ديانتهم على النبوّات الحقّة والكتب السماويّة فيتّضح أنّ منظور القرآن الكريم من المشرك هو عبّاد الوثن .
وقد ورد في الحديث النبوي المعروف في ضمن وصايا متعدّدة ( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ) وهو شاهد على هذا المدّعى ،لأنّ من المسلّم أنّ أهل الكتاب لم يُخرَجوا من جزيرة العرب ،بل بقوا هناك يعيشون جنباً إلى جنب مع المسلمين بعنوان أقليتة دينيّة ،ويلتزمون بما أمر به القرآن الكريم من أداء الجزية إلى المسلمين .
3هل نُسخت هذه الآية ؟
ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ حكم الآية أعلاه قد نُسخ والناسخ له الآية الشريفة ( والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب ){[331]} حيث أجازت نكاح نساء أهل الكتاب .
وقد نشأ هذا التصور من الاعتقاد أنّ الآية مورد البحث قد حرّمت الزواج مع
جميع الكفّار ،فعلى هذا تكون الآية ( 5 ) من سورة المائدة الّتي أجازت الزواج من كفّار أهل الكتاب ناسخة لهذا الحكم ( أو مخصّصة له ) ولكن مع ملاحظة ما ذكرناه من تفسير الآية يتّضح أنّ نظر هذه الآية خاص بالزّواج من المشركين وعبّاد الأوثان لا كفّار أهل الكتاب كاليهود والنّصارى ( وطبعاً في مورد الزواج من كفّار أهل الكتاب هناك قرائن في الآية وما ورد من الأحاديث عن أهل البيت ( عليهم السلام ) أنّ المراد هو الزّواج الموقّت ) .
4تشكيل العائلة والدّقّة في الأمر
أشار بعض المفسّرين المعاصرين إلى نكتة ظريفة في هذه الآية ،وهي أنّ هذه الآية و ( 21 ) آية أخرى تأتي بعدها تُبيّن الأحكام المتعلّقة بتشكيل الأسرة في أبعادها المختلفة ،وفي هذه الآيات بيّن القرآن الكريم اثني عشر حكماً شرعياً:
1حكم الزواج مع المشركين ،2تحريم الاقتراب من الزوجة في حال الحيض ،3حكم القسم بعنوان مقدّمة للإيلاء ( المراد من الإيلاء هو أن يُقسم الإنسان أن لا يجامع زوجته ) ،4حكم الإيلاء ويتبعه حكم الطلاق ،5عدّة المرأة المطلّقة ،6عدد الطلقات ،7إبقاء الزّوجة بالمعروف أو تركها بالمعروف ،8حكم الرّضاع ،9عدّة المرأة المتوفّى زوجها ( الأرملة ) ،10خطبة المرأة قبل تمام عدّتها ،11مهر المرأة المطلّقة قبل الدّخول ،12حكم الهديّة للمرأة بعد وفاة زوجها أو طلاقها منه .
وهذه الأحكام مع مجمل الإرشادات الأخلاقيّة في هذه الآيات تبيّن أنّ مسألة تشكيل الأسرة هو نوع من العبادة لله تعالى ويجب أن يكون مقروناً بالتفكّر والتدبّر{[332]} .