سبب النّزول
للنساء عادة شهرية تستمر بين ثلاثة إلى عشرة أيام .وخلالها يخرج من رحم المرأة دم ذو أوصاف خاصّة مذكورة في كتب الفقه .والمرأة في هذه الحالة تكون حائضاً ،وموقف الديانتين اليهودية والنصرانية الحاليتين من المرأة الحائض متناقض يثير الاستغراب .
جمع من اليهود قالوا: إنّ معاشرة المرأة الحائض حرام حتّى المجالسة على مائدة الطعام أو في غرفة واحدة .ويذهبون إلى حظر جلوس الرجل في المكان الذي تجلس فيه الحائض ،وإن فعل ذلك تنجّست ملابسه وعليه أن يغسلها ،وإن رقد معها على سرير واحد تنجّس بدنه ولباسه ،فهم يعتبرون المرأة في هذه الحالة موجوداً مدنساً يلزم اجتنابه .
ومقابل هؤلاء يذهب النصارى إلى عدم التفريق بين حالة الحيض والطهر في المرأة ،حتّى بالنسبة للجماع .
المشركون العرب ،وخاصّة أهل المدينة منهم ،كانوا متأثرين بالنظرة اليهودية ،ويعاملون المرأة الحائض على أساسها ،فينفصلون عنها خلال مدّة الحيض .وهذا الاختلاف في المواقف وما يصحبه من إفراط وتفريط دفع ببعض المسلمين لأن يسأل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن ذلك ،فنزلت الآية .
التّفسير
أحكام النساء في العادة الشهريّة:
في الآية الأولى نلاحظ سؤال آخر عن العادة الشهريّة للنّساء ،فتقول الآية: ( ويسألونك عن المحيض قل هو أذىً ) وتضيف بلا فاصلة ( فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهنّ حتّى يُطهرن ...) .
( المحيض ) مصدر ميمي ويعني العادة الشهريّة للنساء ،وجاء في معجم مقاييس اللّغة أنّ أصل هذه المفردة تعني خروج سائل أحمر من شجرة تُدعى «سَمُرة » ( ثمّ استُعملت للعادة الشهريّة للنساء ) ولكن ورد في تفسير «الفخر الرّازي » أنّ الحيض في الأصل بمعنى السيل ولذلك يُقال للسّيل عند حدوثه ( حاض السّيل ) ويُقال للحوض هذه اللّفظة بسبب أنّ الماء يجري إليه .
ولكن يُستفاد من كلمات الرّاغب في المفردات عكس هذا المطلب وأنّ هذه المفردة في الأصل تعني دم الحيض ( ثمّ استعملت في المعاني الأخرى ) .
فعلى كلّ حال فهذه العبارة تعني دم الحيض الّذي عرّفه القرآن بأنّه أذىً ،وفي الحقيقة أنّ هذه العبارة تُبيّن علّة اجتناب الجماع في أيّام الحيض ،فهو إضافة إلى ما فيه من اشمئزاز ،ينطوي على أذى وضرر ثبت لدى الطبّ الحديث ،ومن ذلك احتمال تسبيب عقم الرجل والمرأة ،وإيجاد محيط مناسب لتكاثر جراثيم الأمراض الجنسية مثل السفلس والتهابات الأعضاء التناسلية للرجل والمرأة ،ودخول مواد الحيض المليئة بمكروبات الجسم في عضو الرجل ،وغير ذلك من الأضرار المذكورة في كتب الطب ،لذلك ينصح الأطباء باجتناب الجماع في هذه الحالة .
خروج دم الحيض يعود إلى احتقان الرحم وتسلّخ جداره ،ومع هذا الاحتقان يحتقن المبيض أيضاً ،ودم الحيض في البداية يكون متقطّعاً باهت اللون ثمّ يزداد ويحمرّ ويعود في الأخير إلى وضعه المتقطّع الباهت{[333]}
الدم الخارج في أيّام العادة الشهرية هو الدم الذي يتجمّع شهرياً في العروق الداخلية للرحم من أجل تقديم الغذاء للجنين المحتمل .ذلك لأنّ مبيض المرأة يدفع كلّ شهر ببويضة إلى الرحم ،وفي نفس الوقت تمتلئ عروق الرحم بالدم استعداداً لتغذية الجنين فإن انعقد الجنين يستهلك الدم لتغذيته ،وإلاّ يخرج بشكل دم حيض .من هنا نفهم جانباً آخر لحظر الجماع في هذه الفترة التي يكون الرحم خلالها غير مستعد استعداداً طبيعياً لقبول نطفة الرجل ،حيث يواجه أذى من جراء ذلك .
جملة ( يَطْهُرْنَ ) بمعنى طهارة النساء من دم الحيض كما ذهب إليه كثير من المفسّرين ،وأمّا جملة ( فإذا تَطَهَّرْنَ ) فقد ذهب الكثير منهم على أنّها تعني الغُسل من الحيض ،فعلى هذا الأساس وطبقاً للجملة الأولى تكون المقاربة الجنسيّة بعد
انتهاء دم الحيض جائزة حتّى لو لم تغتسل ،وأمّا الجملة الثانيّة فتعني أنّها ما لم تغتسل فلا يجوز مقاربتها{[334]} .
وعلى هذا فالآية لا تخلو من إبهام ،ولكن مع الالتفات إلى أنّ الجملة الثانية تفسير للجملة الأولى ونتيجة لها ( ولهذا أعطفت بفاء التفريع ) فالظاهر أنّ ( تَطَهَّرْنَ ) أيضاً بمعنى الطهارة من دم الحيض ،وبذلك تجوز المقاربة الجنسيّة بمجرّد الطّهارة من العادة الشهريّة ،وهذا هو ما ذهب إليه الفقهاء العظام في الفقه وأفتوا بحليّة المقاربة الجنسيّة بعد الطهارة من الحيض حتّى قبل الغسل ،ولكن لا شكّ في أنّ الأفضل أن تكون بعد الغسل .
الفقرة الثانية من الآية تقول ( فأتوهنّ من حيث أمركم الله )أي أن يكون الجماع من حيث أمر الله ،وقد تكون هذه الفقرة تأكيداً لما قبلها ،أي آتوا نساءكم في حالة النقاء والطّهر فقط لا في غير هذه الحالة ،وقد يكون مفهومها أوسع بخصوص أنّ الجماع بعد الطّهر يجب أن يكون في إطار أوامر الله أيضاً .
هذا الأمر الإلهي من الممكن أن يشمل الأمر التكويني والأمر التشريعي معاً ،فالله سبحانه أودع في الرّجل والمرأة الغريزة الجنسيّة لبقاء نوع الإنسان ،وهذه الغريزة تدفع الإنسان للحصول على اللّذة الجنسيّة ،لكنّ هذه اللّذة مقدّمة لبقاء النوع فقط ،ومن هنا لايجوز الحصول عليها بطرق منحرفة مثل الإستمناء واللّواط وأمثالهما ،لأنّ هذا الطريق نوع من الإنحراف عن الأمر التكويني .
وكذلك يمكن أن يكون المراد هو الأمر التشريعي ،يعني أنّ الزوجة بعد طهارتها من العادة الشهريّة ينبغي عليها مراعاة جهات الحلال والحرام في الحكم الشرعي .
وذهب البعض إلى أنّ مفهوم هذه الجملة هو حرمة المقاربة الجنسيّة مع الزّوجة عن غير الطريق الطبيعي ،ولكن مع الالتفات إلى أنّ الآيات السابقة لم تتحدّث عن هذا الأمر يكون هذا التفسير غير مناسب للسّياق{[335]} .