ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ( 222 )
يبين الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة من شئون الأسرة كيف يختار الزوج ، وكيف يصطفى عشير الحياة ، وأن الأساس هو الدين والفضيلة في الاختيار ، لا جاه الدنيا ولا أحسابها ولا أنسابها ، لأن العشرة الحسنة تقوم على الفضيلة ومكارم الأخلاق ، لا على الاستعلاء بالنسب ، والتفاخر بالحسب .
و في هذه الآيات يبين الله سبحانه وتعالى العشرة الحسنة ، وقد تصدى فيها القرآن الكريم لبيان النزاهة البدنية في العلاقة الطبيعية التي يتقاضاها الطبع السليم بين الرجل والمرأة ، والتي بها يعمر الكون ، ويبقى الإنسان الذي جعله الله سبحانه وتعالى في الأرض خليفة .
و قد ذكر سبحانه وتعالى وصايا كريمة في أمرين ، وتشير هذه الوصايا إلى بعض مقاصد الزواج العليا ، ثم ذكر حكماشرعيا قاطعا في أمر ينفذ فيه بحكم القضاء ، لا بحكم التدين المجرد .
أما الأمران اللذان جاءت فيهما الوصايا الكريمة المرشدة الهادية ، العفيفة النزهة ، فهما يتعلقان بمباشرة الحائض ، والنهي عنه ، وبالمقصد من الزواج وملاحظته عند المسيس وقضاء الوطر الجنسي ، وهو النسل القوي ذو الخلق الكريم ، والأمر الثالث الذي ينفذ بحكم القضاء هو الامتناع عن العلاقة الفطرية الطبيعية مضارة وإيذاء لامرأته بأيمان يحلفها للضرر والإيذاء ، فقد حكم فيه الشارع حكما مقررا ، وهو الفرقة بعد الامتناع أمدا معلوما ، ونؤجل الكلام في هذا الأمر في موضعه من تفسير الآيات الكريمة التي تصدت لحكمه ، ونكتفي هنا ببيان الوصايا في الأمرين الأولين .
[ و يسألونك عن المحيض] السؤال كان من المؤمنين ، ولم يكن من غيرهم ، لأنهم أرادوا أن يعلموا حكم دينهم في أخص شئونهم ، ولأنهم أدركوا بقوة وجدانهم الديني أن الإسلام مرشد إلى الأمر الصالح في كل شيء وفي كل الأمور ، ما دق منها وما جل ، بل ما خص منها وما عم ، وليس أي شأن من الشئون الخاصة إلا له صلة بالشئون العامة ، لأن الإنسان ليس شيئا قائما بذاته منفردا عن غيره مفصولا عن سواه ، بل هو جزء من كل ، موصول بما عداه ، فالأجزاء تتلاقى فتكون ذلك المجموع وتربطه بروابط من الفضيلة ، فما من خصوص للآحاد إلا له صلة وثيقة بعموم الجماعة ، ومن فصل الأمور الشخصية عن الأمور العامة لم يفهم علاقة الإنسان بالإنسان ولم يفهم قانون الجماعات وسر الاجتماع .
من أجل هذا المعنى سأل المؤمنون عن هذا الأمر الخاص الذي يتصل بأدق العلاقة بين الرجل والمرأة .
والمحيض مشتق من الحيض ، وأصله بمعنى السيل ، يقال:حاض السيل بمعنى فاض ، ثم أطلق الحيض على ما يقذفه رحم المرأة من دم في حال فراغه من الحمل ، والمحيض قال الزمخشري فيه:إنه مصدر ميمي ك:مجيء ، ومبيت ، وعلى ذلك يكون السؤال عن المحيض أي عن حكم العلاقة بين الرجل والمرأة عند وجوده . وقد يراد منه اسم الزمان ، ويكون السؤال عن حكم العلاقة بين الرجل والمرأة في وقته ، وقد يراد منه اسم المكان من حيث العلاقة في مكان الحيض وهو جهاز المرأة التناسلي .
و الظاهر أن السؤال عن حكم العلاقة عند وجود الدم وكل التخريجات السابقة تصلح لذلك وكلها تحتاج إلى تأويل محذوف مقدر وهو السؤال عن الحكم ، وكل التقديرات تنتهي إلى معنى واحد . وما جرى بين المفسرين من خلاف في هذا هو خلاف لفظي لا جدوى – من حيث المعنى – فيه ، ولماذا كان السؤال ؟ ألم يكن من مقتضى الفطرة أن يعلموا الجواب ؟ نعم لقد كان من مقتضى الفطرة أن يعلموا أن الحيض أذى في كل أحواله ، وأنه يعتزل موضعه إبان ظهوره ، ولكن أهل الديانات السماوية التي كانت تصاقب{[299]} أماكنهم في بلادهم من اليهود والنصارى قد اختلفوا ، ما بين متشددين في شأن الحائض ، ومتسامحين في شأنها ، فالنصارى ما كانوا يفرقون بين حائض وغير حائض في المعاملة والمباشرة ، واليهود كانوا يشددون عليها وعلى أنفسهم في المعاملة فيتجنبونها اجتنابا تاما ، ولا يعتزلونها في المباشرة وحدها ، بل يعزلونها في كل الأحوال عن أنفسهم عزلا كاملا ، حتى ليعتبرون كل ما مسته يكون نجسا ، ومن يمسها يكون نجسا ، وكأنها تكون من الأنجاس في هذه المدة{[300]} .
و كان من العرب من تأثروا بطريقة اليهود ، ومنهم من سلكوا مسلك النصارى ، فسألوا عن حكم الإسلام إلى أي الطريقين يتجه ، فكان الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، وكان بين ذلك قواما ، فأباح المعاملة ومنع المباشرة .
[ قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن] أجاب الله سبحانه وتعالى بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيب به [ هو أذى] أي هذا الدم الذي يلفظه الرحم أذى يتأذى به الإنسان تأذيا حسيا جسميا ، فرائحته ، يتأذى منها من يشمها ، وهو قذر في ذاته ، وهو فوق ذلك أذى نفسي للرجل والمرأة معا ، فالمرأة لا تكون في حال تستسيغ معها المباشرة ، بل إنها تكون متقززة منها في هذه الحال نافرة إلا في الأحوال الشاذة والصور النادرة ، وجهازها التناسلي يكون في حال اضطراب ، فتتألم من كل مباشرة ، وأعصابها وأحوالها وعامة شئونها تكون في حال تتأذى معها من كل اتصال جنسي ، والرجل يتأذى نفسيا ، إذ يكون خليطه في حال نفرة بل بغض لما يقدم عليه ، ثم إن المباشرة في هذه الحال لا يتحقق معها القصد الاسمي وهو النسل ، فإن المرأة في هذه الحال لا تكون صالحة للإنسال .
و إذا كان موضع الحيض أو الحيض نفسه شيئا يتقزز منه ، فإن الوصية الواجبة في حاله هي الاعتزال ، ولذا قال سبحانه مرتبا الوصية على تلك الحال التي يتأذى منها [ فاعتزلوا النساء في المحيض] أي اعتزلوهن في وقت الحيض ، والمراد بالاعتزال الامتناع عن المباشرة ، وقد روي عن ابن عباس أن المراد بالاعتزال هو اعتزال الفراش ، وهو في ذلك أقرب إلى مسالك اليهود ، ولكن تلك الرواية شاذة لا يلتفت إليها ، ولا تنقض إجماع العلماء على أن المراد بالاعتزال هو الامتناع عن المباشرة ، لا ترك الفراش وتجنب النوم معها على فراش واحد ، فقد أجمع العلماء وتضافرت الروايات على أن المنهي عنه فقط هو المباشرة نفسها .
و لعل تلك الرواية المروية عن ابن عباس رضي الله عنه تتجه إلى أن اعتزال الفراش بأن ينام في مكان وهي في مكان إنما هو للاحتياط حتى لا يكون اتحاد الفراش مؤديا إلى ذلك الأمر الممنوع .
و لئن أخذنا بهذه الرواية لكان تحريم المباشرة لذاته ، وتحريم الاجتماع في المبيت على فراش واحد لغيره ، لأنه يؤدي إلى الممنوع ذاته .
و يلاحظ في نسق الكلمات السامية [ قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض] أنه قد قدم السبب على المسبب ، والعلة على المعلول ، فإن سبب الوصية بالاعتزال هو كون المحيض أذى يجب الاعتزال فيه .
و إذا كان سبب الاعتزال وعدم المباشرة هو أذى المحيض فإن الاعتزال مؤقت بوجوده ، ويزول بانتهائه ، ولذلك بين سبحانه مدى تحريم الاعتزال بقوله تعالى:[ ولا تقربوهن حتى يطهرن] والقرب المنهي عنه كناية عن المباشرة ، وهي من الكنايات القرآنية التي تربي الذوق وتمنع عن الأسماع الألفاظ التي يجافي سماعها الأذواق السليمة ، وكم للقرآن من كنايات ومجازات تعلو بمستوى القارئ ، ولها وضوح وقصد إلى المعاني من غير خطأ في الفهم ، ولا غموض في الموضوع ، وأي قارئ يقرأ كلمات [ فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن] ، ولا يفهم منها النهي عن الحال التي يتقاضاها الطبع في الأحوال الاعتيادية ، وأن النهي موقوت بذلك الوقت المعلوم .
و القراءة المشهورة هي بفتح الراء في [ و لا تقربوهن] وبضم الهاء [ يطهرن] من غير تشديد الطاء .و قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية المفضل:[ يطهرن] بفتح الهاء ، وتشديد الطاء .
و يذكر العلماء في مادة"قرب"أن هذا الفعل من باب كرم ، ومن باب فرح ، فيقال قرب يقرب ، ويقال قرب يقرب ، والأول لازم والثاني متعد ، والمعنى فيهما مختلف ، فالأول يكون بمعنى الدنو ، والثاني كذلك ، ولكنه غلب في العرف أنه مجاز عن اللبس أي الاتصال بالشيء ، ومن ذلك قوله تعالى:[ و لا تقربوا مال اليتيم . . .152]( الأنعام ) وقوله تعالى:[ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا . . .28] ( التوبة ) أي لا يدخلوه وكذلك قوله تعالى:[ و لا تقربوهن] .
و قوله تعالى في القراءة المشهورة يطهرن يكون معناها انقطاع الدم ، لأنه إذا كان سبب الأذى هو الدم ، فانقطاعه طهور منه ، فهو وصف وحال قائمة بالمرأة تثبت عند انقطاع الدم لزوال سبب النجاسة . وأما قراءة يطهرن ،فمعناها يغتسلن ، لأن التطهير غير الطهور ، إذ هو فعل من المرأة نفسها منسوب حدوثه إليها ، فهي التي تنشئه لا لأنه حال طهر يعود بعد زوال سبب النجاسة المؤقتة .
هذا تفسير بعض العلماء ، وبه أخذ الحنفية . وقال آخرون وعلى رأسهم شيخ المفسرين ابن جرير الطبري:إن القراءتين في معناهما واحد ، وهو التطهر ، فلا تعد طاهرة إلا بالاغتسال ، وهذا ما سلكه جمهور الفقهاء غير الحنيفة .
و قد انبنى على ذلك الخلاف في التفسير خلاف فقهي ، فالحنفية قالوا:بمجرد انقطاع الدم إذا كان الانقطاع لأقصى مدة الحيض وهو عشرة أيام تحل المباشرة ولو قبل الاغتسال أخذا بالقراءة المشهورة وهي قراءة [ يطهرن] لتأكد زوال الدم ، وبه الطهارة ، وإن كان الانقطاع لأقل من عشرة أيام فلا بد من تأكد زوال الدم بعمل آخر من جانبها وهو الاغتسال الفعلي ، وبذلك تنطبق قراءة [ حتى يطهرن] فالحنفية قد أعملوا القراءتين في نظرهم .
و غيرهم لم يفرق بين القراءتين في المعنى وفسرهما بمعنى الاغتسال فلا تحل قبله مطلقا ، فالطهر حقيقة فيه ، وغيره مجاز ، ولا قرينة تدل على إرادة المعنى المجازي ، فلا يعدل عن الحقيقة ، وفوق ذلك فإن إباحة المباشرة صرح فيها بأن ذلك متصل بالطهر ، لا بالطهور ، فقد قال سبحانه:
[ فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله] وإذا كان المنع مؤقتا ، فإنه بزواله تجيء الإباحة ، وتعود الحال إلى ما كانت عليه ، وهنا كلمتان ساميتان نشير إلى بعض ما اشتملتا عليه من معان سامية ، وهما قوله تعالى:[ فأتوهن] والثانية قوله [ من حيث أمركم الله] .و الطلب في قوله تعالى:[ فأتوهن] ليس المراد به الحتم واللزوم ، فليس بلازم الإتيان عقب التطهر ، لأن ذلك مبني على الرغبة والطاقة ،إنما المراد هو إباحة المباشرة فإنه من المقرر عند علماء الأصول أن الأمر بعد النهي يكون للإباحة ، وخصوصا إذا كان الموضع موضع حل وإباحة لا موضع تكليف وإلزام ، مثل قوله تعالى:[ و إذا حللتم فاصطادوا . . .2] ( المائدة ) ومثل قوله تعالى:[ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله . . .10]( الجمعة ) .
و أما الكلمة الثانية وهي [ من حيث أمركم الله] فمن هنا المسماة بمن الابتدائية ، أي الإتيان يكون مبتدئا من المكان الذي أحله الله سبحانه ، وهو الذي كونه الله سبحانه على أنه المكان الفطري الطبيعي لتلك العلاقة الجنسية ، وهو مكان البذر والإنسال ، فالمراد من أمر الله في هذا المقام الأمر الإلزامي الذي جاء الإلزام فيه بحكم الشرع الإلهي ، وبحكم الفطرة التكوينية ، فقد أمر الله بأن تكون المباشرة في موضع النسل والحرث والبذر ، والفطرة التي فطر الله الناس عليها توجب ذلك وتلزم به ، إلا من إيفت مشاعرهم وشذ تكوينهم ، ولذلك كانت تلك الفطرة هي الوضع الإنساني الذي التزمه بنو الإنسان حتى المتوحشون المتبدون ، ولم يخرج عن ذلك إلا الذين أصابهم شذوذ في عقولهم ونفوسهم من بعض الذين سموا متمدينين .
[ إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين] ذيل الله سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة بتلك الجملة السامية ، والتواب صيغة مبالغة من تائب بمعنى راجع إلى ربه إذا هفا ، منيب إليه إذا انحرف ، كثير الرجوع إلى رب العالمين بتوبة نصوح ، والتواب وصف مدح يمدح به العبيد .
و إن للتوبة منزلتين:
المنزلة الأولى:أن يرتكب الشخص منكرا أو معصية بشكل عام ، سواء أ كانت صغيرة أم كانت كبيرة ، ويفعل ذلك بجهالة ، ثم يتوب توبة نصوحا ، ويحسن التوبة فيغفر الله له ، فإن الله سبحانه يغفر الذنوب جميعا لمن أحسن التوبة ، والتوبة في هذه الحال وصف مدح بلا شك ، وخصوصا إذا استشعر التائب ما كان فيه ، وأحس بالخضوع وأحسن التضرع ، وكان تذكره للماضي حافزا على الاستمساك بحاضره ، والاتجاه إلى ربه ، وطلب المغفرة ، فإن الإحساس بذل المعصية يدنيه من ربه ، ويقربه منه .
و المنزلة الثانية ، من التوبة وهي العالية السامية:أن يحس المؤمن التقي بمقام ربه ، فيحس مع ذلك بالقصور في حقه ، فيراجع ربه بالتوبة الحين بعد الحين ، تداركا لما ظن من تقصيره ، وما ارتكب في تقديره ، فيكون توابا منيبا مستمرا في توبته .
و الله سبحانه يحب التائب في كلتا حاليه ، وإن تفاوتت المنازل واختلفت الدرجات . ومحبة الله تعالى للتائبين رضاه عنهم ، وإسباغ رحمته عليهم ، فالمحبة رضا ورحمة وتقريب . والمتطهرون هم الذين طهروا حسهم ونفوسهم ، وظاهرهم وباطنهم .
و إن تذييل الآية بهذه الجملة السامية يفيد ثلاث فوائد:
أولها:إشعار المؤمن أن الله غفار للذنوب لمن ارتكب كما قال تعالى:[ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا . . .53]( الزمر ) .
ثانيتها:أن الله سبحانه وتعالى يحب المؤمن الذي لا يغتر بطاعاته ، حتى لا يزين لنفسه كل أعماله ، فقد يتأدى الأمر بمن يزين لنفسه عمله إلى أن يزين له سوء عمله فيراه حسنا ، وإن الذي يستصغر حسناته فيكثر من التوبة قريب من ربه مستمتع بمحبته سبحانه وتعالى ، وهي أقدس ما في هذا الوجود .
ثالثتها:أن طهارة الحس تؤدي إلى طهارة النفس ، فمن كان طهور النفس لا يقبل أن يقدم على أمر مستقذر في ذاته ، تعافه الطبائع السليمة ، والفطرة المستقيمة .