[ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم] في هذه الآية يشير الله سبحانه وتعالى إلى ثلاثة أمور:
أولها:بيان أن المقصد من الزواج ليس هو قضاء الوطر وإشباع الشهوة ، فإن ذلك كما يكون في زواج شرعي يكون في المسافدة الحيوانية ، إنما المقصد هو النسل وبقاء هذا الإنسان في الوجود على أكمل وجه ، وتهذيب النشء بين أبويه وفي أحضانهما لتنمو غرائزه وتتهذب طبائعه ، وتستيقظ ينابيع الخير فيه .
و ثاني هذه الأمور:أن ما يكون بين الزوجين اللذين جمعهما الله بكلمة الشرع وحكمه هو الأنس الروحي مع المتعة الجسدية ، وإن ذلك ليقتضي زوال الكلفة ، وأن يكون بينهما من المباسطة ما تسهل معه الحياة ، ويكون في البيت تخفيف أعبائها ، واستجمام القوى ، ليستطيع تحمل تكليفاتها .
و ثالث هذه الأمور:أن الدين يجب أن يكون مسيطرا ، ويجب أن تكون العدالة قائمة ، والمودة حاكمة فيما بين الرجل والمرأة .
و قد أشير إلى الأمر الأول بقوله تعالى:[ نساؤكم حرث لكم] وأشير إلى الأمر الثاني بقوله تعالى:[ فأتوا حرثكم أنى شئتم] وأشير إلى الأمر الثالث بقوله تعالى:[ و قدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين] .
و بعد هذا الإجمال نتكلم في معاني هذه الجمل السامية لنستبين هذه الإشارات من تلك العبارات القدسية ، فنتكلم في معنى قوله تعالى:[ نساؤكم حرث لكم] أصل كلمة حرث تطلق على إثارة الأرض لإلقاء البذر فيها ، وقد تطلق كلمة الحرث على الأرض المحروثة نفسها ، فتسمى الأرض المحروثة المهيأة للزراعة أو المزروعة فعلا حرثا ، ومن ذلك قوله تعالى:[ أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين 22]( القلم ) ثم أطلقت كلمة حرث في الآية الكريمة وأريد بها الزوجة على سبيل التشبيه ، وقد قال في وجه التشبيه الراغب الأصفهاني ( بالنساء زرع ما فيه بقاء نوع الإنسان ، كما أنه بالأرض زرع ما به بقاء أشخاصهم ) .
ففي الكلام إذن تشبيه الزوجة بالحرث ، ووجه التشبيه الذي ذكره كان بين الزوجة وبين الأرض الخصبة المنتجة من حيث إن كليهما يمد الوجود الإنساني ، فالزوجة تمده بعنصر تكوينه وإنشائه ، والأرض تمده بالزرع الذي يكون به بقاؤه . وذكر الزمخشري أن التشبيه بين ما يلقى في الأرحام من النطفة والبذر الذي يلقى في الأرض من حيث إن كلا منهما ينمو في مستودعه ، ويكون به البقاء والتوالد . وكيفما كان توجيه التشبيه من الناحية اللفظية ، فإن الجملة الكريمة ترمي إلى معنى كريم ، وهو أن العلاقة بين الرجل والمرأة ليست هي قضاء الوطر لإشباع الشهوة المجردة ، بل هي تنظيم النسل فلا يصح للرجل الكامل الذي اتجهت به الإنسانية نحو الكمال أن ينظر إلى زوجه إلا على أنها مستودع سر الوجود الإنساني ، وأنها مرمى ولده ، وأن قطعة منه تتصل بها فيختلط وجوده بوجودها ، وتخرج من رحمها وديعته ، وقد امتزجت فيها عناصرهما وخواصهما وطبائعهما ، وصارت صورة في الوجود لأشخاصهما ، ومنازعهما ، وإذا كانت الخلطة الفطرية قد أوجد الله بها ذلك المخلوق الذي يريان فيه أنفسهما موحدة متلاقية ، فإن ذلك يتقاضاهما أو يحملهما على تنشئته على صورة لما يصبوان إليه من كمال ، وإذا تقاصرت نفس أحدهما عن الآخر فقد يكون الاضطراب في تكوينه الخلقي ، بل يكون نقص في تكميل نموه الجسمي .
و إذا كان ذلك بعض ما يشير إليه التعبير عن الأزواج بأنهن حرث ، فإنه بلا شك يحث الرجل على أن يتخير موضع حرثه ، كما يتخير موضع زرعه ، فإنه لا يطلب لبذره إلا الخصبة القوية من الأرض ، فكذلك لا يطلب إلا القوية من النساء في جسمها وخلقها ودينها ، وطيب أرومتها ، وكرم بيئتها ، ليكون الولد قويا ، ولينشأ نشأة كاملة تربي فيه قوة الجسم والخلق والدين والعقل ، ولذا جاء في المأثور "تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم "{[301]}وروي عن النبي صلى الله عليه وسلمأنه قال:"إياكم وخضراء الدمن "وهي المرأة الجميلة التي نبتت في منبت سوء{[302]} . فلا تطلب المرأة لجمالها ولمالها ، ولا لجاه أسرتها ، ولكن تطلب لدينها وخلقها ، ولبيئتها الدينية الخلقية الطاهرة .
وقوله تعالى:[ فأتوا حرثكم أنى شئتم] تشير إلى المباسطة التي تكون بين الزوجين ، وإبعاد ما يتكلفه الإنسان في لقاء الإنسان ، فإن ذلك يزول عندما يكون الرجل مع زوجه ، ويستروح راحة الحياة ، ومودة العشرة الزوجية ، فإن قوله:[ فأتوا حرثكم أنى شئتم] معناه قاربوا أو باشروا نساءكم كيفما شئتم . وقد روى الرواة أن اليهود الذين كانوا يجاورون أهل المدينةكانوا عند المباشرة لا يرى الرجل من زوجه شيئا ، ولا تكون المباشرة إلا بإبعاد حرف من الثياب ، وقد سرت تلك الحال من التكلف إلى الذين كانوا يساكنونهم من أهل يثرب ، ولعلهم ظنوا ذلك أدبا وتهذيبا ، وحسبوه أمرا في هذه الحال مطلوبا ، فسلكوا مسلكهم ، وكانت قريش تزيل كل تكلف من هذا عندما يختلي الرجل بزوجه ، فلما كان التزاوج بين المهاجرين من قريش ، والأنصار من أهل المدينة الذين سرى إليهم ذلك التزمت من اليهود ، كانت تحدث نفرة أحيانا بين الزوجين بسبب التزمت من جانب ، ورغبة التبسط من جانب آخر ، فكان قوله تعالى:[ فأتوا حرثكم أنى شئتم] مزيلا للتكلف ، داعيا إلى المباسطة ، ليكون ما بين الرجل والمرأة فيه استرواح للنفوس ، واستجمام للقلوب ، فكلمة ( أنى ) معناها ( كيف ) أي باشروا نسائكم في موضع الحرث على أي شكل كانت المباشرة .
ويقول علماء اللغة إن ( أنى ) يستفهم بها وتكون بمعنى كيف ، وذلك أصل استعمالها ، وقد تكون مع استعمالها بمعنى كيف للمكان أيضا ، ولذلك يقول الراغب الأصفهاني:( أنى للبحث عن الحال والمكان ، ولذا قيل هو بمعنى أين وكيف لتضمن معناهما ، قال الله عز وجل:[ أنى لك هذا . . .37]( آل عمران ) أي من أين وكيف لك هذا ؟ ) .
و هي هنا بمعنى كيف الذي هو أصل استعمالها . وذكر الحرث{[303]} في قوله سبحانه:[ فأتوا حرثكم] للإشارة إلى أنه مع إباحة الاستمتاع الجسدي ، والاسترواح النفسي ، وإحلال المباسطة محل التكلف والتزمت ، مع كل هذا لا ينسى المقصود الأصلي ، وهو أن الغاية هو النسل والقيام على شئونه وتربيته ، فإذا كانت الحياة الزوجية يزول فيها كل ما يحجب الإنسان عن الإنسان من ظواهر وأشكال ، فإن لذلك غايتين ساميتين:
إحداهما:النسل وتهذيبه والقيام على شئونه .
و الثانية:الاستجمام والاستعداد بهذا الاستجمام للقيام بأعباء الحياة موفور القوى النفسية التي هي معين الصبر ، وأساس الاحتمال .
[ و قدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين] اشتملت هذه الجمل السامية على ثلاثة أوامر ، وبشرى ، أما الأوامر الثلاثة فهي [ و قدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه] ، وأما البشرى ، فهي [ و بشر المؤمنين] .
و الأمر الأول:وهو قوله تعالى [ و قدموا لأنفسكم] معناه اعملوا في حاضركم ما يكون لمستقبلكم ذخرا وعتادا ، وقدموا من الأعمال الصالحة في الحاضر ، ما يكون نفعا لكم في المستقبل ، لأن من يعمل عملا صالحا في حاضره ، يمكن للمستقبل الحسن لنفسه ، وهذا المعنى عام يشمل كل عمل صالح ، وكل بر يقدم عليه الإنسان ، فهو حصن المستقبل ، يقدمه لنفسه من بناء الحاضر على عماد مكين من الخير ، وهو في هذه الآية يدل مع هذا العموم على معنى فيها على وجه الخصوص ، وهو ما يتناسب مع الزواج وعشرة الأهل ، والقيام على شئونهم ، فالمعنى على هذا:قدموا لأنفسكم في أمر الزواج وما يثمره ، بأن تختاروا عند الزواج ذات الخلق والدين والعفاف والاعتدال ، حتى يكون لكم حياة هنيئة في حياتكم الزوجية ، فمن اختار الزوج العفيفة ذات الدين فقد قدم لنفسه ، ولمستقبله ، وإذا أحسنتم الاختيار فاطلبوا النسل وقوموا على شئونه وتعهده بالخلق الجميل وبث الفضيلة في نفسه ، فإن من قام على تربية ولده فقد قدم لنفسه ، والولد عمل صالح لأبيه ، وإذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من بر يؤثر عنه ، وولد صالح يذكره ويدعو له ، وصدقة جارية مأثورة عنه ، ثم إذا أحسنتم اختيار الزوج فأحسنوا عشرتها ، وخذوها بالرفق والدين والفضيلة والمعاملة الحسنة والقيام بحقها ، فإن من يفعل ذلك يقدم لنفسه ، فإن المرأة إذا جمحت نغصت البيت ، وكان العيش نكدا ، فمن أحسن معاملة أهله فقد قدم لنفسه .
و على هذا يكون لقوله تعالى:[ و قدموا لأنفسكم] معنى عام يشمل كل خير ، ويدخل في عمومه معنى خاص ، وهو ما يتعلق بالزواج والعشرة الزوجية والولد .
و الأمر الثاني:قوله تعالى:[ و اتقوا الله] وله معنى عام هو أن يجعلوا بينهم وبين عصيان الله وقاية ، ويخافوا الله سبحانه ، ويجتنبوا المعاصي ، والأذى ، وظلم الحقوق ، والاعتداء على الناس ، وخصوصا الرقيق ، ويدخل في هذا المعنى العام معنى خاص يتصل بموضوع الآيات الكريمة ، وهو الزواج وما يثمره ، وهو أن يتقي أذى العشير ، وظلم المرأة ، وهضمها حقوقها ، وظلم الأولاد بعدم القيام على شئونهم ، وحسن تربيتهم ، وإن أذى المرأة ظلم ليس فوقه ظلم ، وهو ظلمات يوم القيامة . وفي المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم ، اتخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله "{[304]} .و كان آخر ما وصىبه النبي صلى الله عليه وسلم أن يتقوا الله تعالى في المرأة والرقيق .
و الأمر الثالث:قوله [ و اعلمو أنكم ملاقوه] والإيمان بلقاء الله تعالى هو الذي يربي النفس على فعل الطاعات واجتناب المنهيات ، وهو الذي يجعل الإنسان يطمئن إلى فعل الخير ، إذ يعلم أن فيه رضوان الله ، وهو سيلقاه ، ويجنب نفسه فعل الشر ، لأن فيه غضب الله ، وسيلقاه ، وسيجزيه الجزاء الأوفى ، سيجزيه على الإحسان إحسانا ، وعلى السوء سوءا ، إنه بكل شيء عليم . وهذا المعنى عام في كل شئون الحياة ، ويدخل في هذا العموم المعنى الخاص بالحياة الزوجية ، وهو أن يراقب الله في معاملته لأهله وولده ، وإن المرأة إن كانت بين يديه قد فقدت النصير ، أو حيل بينها وبين نصرائها ، فليعلم أن الله معها ، وأنه عليه رقيب ، وانه سيلاقيه وسيأخذه أخذ عزيز مقتدر ، ومنتقم جبار ، وأنه إن استبد به طغيانه فأكل حقوقها ، وانحرفت فطرته فضيع أولاده ، فإن الله عليه رقيب ، وسيلقاه ، ويجزيه على سوء ما صنع ، وإذا أحسن العشرة ، وقام بحق الله وحق الزوج وحق الولد ، فأعطى كل ذي حق حقه ، فإن الله سيلقاه ، وسيجزيه من الخير بما قدمت يداه .
وإن هذه هي بشرى المؤمنين ، وهي قوله تعالى:[ و بشر المؤمنين] فالإيمان يتقاضى المؤمن أن يقوم بحق أهله وبحق ولده ، وأن يكون حسن العشرة ، وألا يهضم أهله ، وإن لم يفعل فليس من الإيمان في شيء ، والله ولي المتقين .